نُصب بوريس جونسون رئيساً لوزراء بريطانيا، من قبل الملكة إليزابيث الثانية. بريطانيا العظمى دولة اتحادية، يحكمها نظام برلماني، صاحب السيادة الدستورية فيه لمن يرفع تاج المملكة المتحدة على رأسه، ملكاً كان أم مَلِكَة... بينما السيادة الفعلية للشعب البريطاني. يُعتبر نظام الحكم في بريطانيا العظمى، نموذجاً أصيلاً للنظام البرلماني، الذي يأخذ بآليات الديمقراطية غير المباشرة (النيابية)، لاختيار رموز الدولة في مؤسسات الحكومة المختلفة، التي تستمد شرعيتها، من مصدرين أساسيين الأول: تاريخي دستوري (وراثة العرش البريطاني). الثاني: سياسي (فعلي)، من الإرادة المباشرة للشعب البريطاني. لابد، في كل الأحوال، الجمع بين الإرادتين الدستورية والشعبية، لاختيار وتشكيل الحكومة البريطانية، التي يرأسها حاكم بريطانيا القوي، الذي يَنْزِل ويقع مقر حكومته في: 10 داوننغ ستريت في لندن. لكن، هل فعلاً، ملوك بريطانيا العظمى، في ظل نظام الملكية الدستورية، لا يمتلكون سلطة سياسية فعلية، في حكم البلاد.. ويكتفون بامتيازات وحصانات المكانة الملكية الرفيعة. صحيح: ملوك بريطانيا، لم تعد لهم سلطة سياسية فعلية، في ممارسة سلطة الحكم، بموجب ما جرى عليه عُرف دستور البلاد غير المكتوب.. وأن السلطة التنفيذية الحقيقية، منوطة لرئيس الوزراء، الذي يستمد شرعية حكمه من البرلمان (السلطة التشريعية)، الذي فوض له الشعب ممارسة الحكم (السلطتين التشريعية والتنفيذية)، نيابة عنه ووفقاً لإرادته الحرة، التي تتجلى في الانتخابات العامة، التي تأتي بأعضاء البرلمان (مجلس العموم). لكن، في حقيقة الأمر، وبموجب الدستور غير المكتوب والمتواتر العمل بموجبه، فترة طويلة، شرعية أية حكومة بريطانية، لا تكتمل، إلا بعد موافقة قصر باكنغهام عليها. بل إن الحكومة لا تجتمع.. ولا يصبح البرلمان شرعياً، إلا بمباركة الملك أو الملكة له والمشاركة في افتتاحه والإذن له بالعمل. كما أنه رغم وجوب عملية اختيار رئيس الوزراء والإقرار له وحكومته بالعمل، من صلاحيات نواب الشعب في البرلمان، إلا أن ذلك لا يتم إلا بعد موافقة القصر على ذلك... بل إن دعوة رئيس الوزراء وتسميته، لابد أن تحظى أولاً بالإرادة الملكية، حتى لو أن إجراءات كل ذلك من صلاحيات نواب الشعب في مجلس العموم. ماذا يعني ذلك. يعني ذلك: من الناحية الدستورية، أن أصل الشرعية السياسية في البلاد، هي لصاحب السيادة الدستوري (الملك). ويعني، أيضاً: أن الإرادة الملكية، نفسها، تعبير عن الإرادة العامة للشعب، الدليل: أن الشعب البريطاني، ما زال متمسكاً بالنظام الملكي، رغم تكلفة ذلك العالية على دافع الضرائب البريطاني. فالإرادتان، إذن: متكاملتان، وليستا بالضرورةِ متضادتين. ويعني أيضاً: أن الإرادة الملكية، هي الثابت.. وإرادة نواب الشعب، هي المتغير. لننظر: كم عاماً قضتها ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، معتلية عرش بريطانيا العظمى.. وكم رئيس وزراء تواتر على حكم بريطانيا، منذ أن أعتلت الملكة إليزابيث الثانية العرش (6 فبراير 1952). بالتبعية: وهو ما تؤكده الشواهد التاريخية، لملك أو ملكة بريطانيا، دور مهم في صناعة السلطة في بريطانيا العظمى، بينما، في كثيرٍ من الأحيان، ما يُتغاضى عن هذه الحقيقة.. وتطغى عليها تواتر الأخذ بآليات النظام البرلماني، الديموقراطية. في واقع الأمر: لملوك أسرة وندسور في بريطانيا، سلطة تقديرية وليست نظرية فقط، في علاقة القصر بالبرلمان ورئاسة الوزراء، وفي صناعة السلطة، بصفة عامة. في الحرب العالمية الثانية، وبعد أن دخل هتلر بلجيكا.. ومازال تشمبرلن وحكومته المحافظة، يميلون لمهادنة هتلر والعمل على عقد اتفاق معه، ومقاومة أي اتجاه لتصعيد الموقف. في المقابل: كان لملك بريطانيا، حينها جورج السادس (1895- 1952) رأيٌ آخر، يتماشى مع المعارضة في البرلمان، حتى من بين حزب رئيس الوزراء تشمبرلن، وربما يعكس إرادة الشعب البريطاني، حينها. لقد أجبر الملك تشمبرلن على تقديم استقالته.. وانحاز إلى جناح الصقور في حزب المحافظين والبرلمان، بتعيين ونستون تشرشل.. وتفضيله على معارضي الحرب في الحزب والبرلمان، بزعامة فيسكونت هاليفاكس، الرجل القوي في حزب المحافظين.. ومن أهم المناوئين للحرب مع ألمانيا، الذي كان وزيرا للخارجية في حكومة. تشمبرلن. صحيح أن الملك جورج السادس، اتخذ قراره باختيار ونستون تشرشل رئيساً للوزراء، من خلال إجراءات دستورية تمت من داخل مجلس العموم، إلا أن تأثيره ونفوذه كانا حاسمين، بإحداث «انقلاب» في داخل حزب المحافظين على رئيسه ورئيس الوزراء.. وعلى الجناح الذي يدعم عدم التورط في حرب مع ألمانيا، بمن فيهم الرجل القوي في الحزب فيسكونت هاليفاكس.. والدفع بورقة ونستون تشرشل وأجندته ليتبناها الحزب، وكذا مجلس العموم، دون الحاجة لإجراء انتخابات في داخل حزب المحافظين، لاختيار رئيس وزراء جديد.. أو الدعوة لانتخابات عامة مبكرة، لاختيار مجلس عموم، جديد. بالتبعية: تم تشكيل حكومة حرب ائتلافية، برئاسة ونستون تشرشل.. بدعم وتدخل مباشر، من قبل الملك جورج السادس. نفس السيناريو، كان من المحتمل أن تُقْدِمَ عليه ملكة بريطانيا، لو احتدم الخلاف في مجلس العموم وبين أعضاء حزب المحافظين الذي يرأس برلماناً معلقاً مكوناً من ائتلافٍ هشٍ، بسبب قضية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، لو حدث وفشل حزب المحافظين في اختيار رئيس له، يرأس الحكومة. لكن النظام البريطاني تفادى أزمة سياسية، يمكن أن تعيد للملكية تأكيد وزنها السياسي، في النظام الدستوري البريطاني، فتم حل مشكلة رئاسة الحزب الحاكم (المحافظين).. واحتفظت الحكومة ببقائها في السلطة، لإعطائها فرصة للتوصل إلى اتفاق مع بروكسل يضمن خروجاً لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي، بأقل الخسائر الممكنة. تتجلى قوة قصر باكنغهام في الأوقات العصيبة، التي تمر بها بريطانيا. مشكلة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تقل خطورة، على أمن بريطانيا القومي، من اجتياح هتلر لغرب أوروبا عام 1940. كان من المحتمل تدخل ملكة بريطانيا، لحسم الوضع داخل حزب المحافظين، إما بتعيين رئيس وزراء جديد من داخل الائتلاف الحاكم.. أو أن تلجأ إلى إجراء أقل «دراماتيكية»، بحل البرلمان.. والدعوة إلى انتخابات عامة مبكرة، دون الحاجة لدعوة الحكومة لذلك.. أو رضاء البرلمان. في بريطانيا العظمى، تبدأ السلطة وتنتهي، من داخل بلاط قصر باكنغهام، رغم السلطات الدستورية المحدودة، التي بقيت لعرش أسرة وندسور. * كاتب سعودي