كلما حاول أحدهم أن يفتح الباب للفراق أوصده مسرعاً، فالقلب يضعف أمامه والعين تغرق في بداياته والعقل يتيه في محاولاته، أيتها الأيام عرفتكِ ابنةً للدهر حفيدةً للقدر سبطةً للدنيا رفيقةً للدقائقِ والساعات، شقيقةً للشهر والأسبوع، أنت فاتنةٌ جداً في اللقاء، دميمةٌ في الوداع، غانية في المواقف، شنيعةٌ في النهايات. كم نتألم عندما نفارق أشخاصاً وهم على قيد الحياة، وندعو لهم بأن يمدهم الله بعمرهم أضعافاً، ولكن سيغيب عن عينك، سيبتعد عن محيطك، لن تستطيع أن تخبره إذا ضعفت، ولا تقدر على استشارته إذا تهورت، ويستحيل أن تجالسه إذا رغبت، إنه الوداع الحي الذي يطوي معه صفحات عظيمة امتدت لعقد كامل من الزمن. ترجل من كان يرفع بيدي أمام الجمع، ترجل من كان يدعوهم لتحيتي، ترجل من كان يحثني على العلياء، ترجل من كنت بحضرته عظيماً، ترجلت ابتسامته، نظراته، امتعاضاته، جميعها ذهبت معه ولم يبقَ منها سوى أثرها، فأنا لم أعتد على السراب، لم أعتد على الأطلال، لم أعتد على النوى. يقول والدي ليس المشيب علامةً على الكبر بالضرورة ! فكلما ذقت مرارة ما كُنت تراه حلاوة، هنا يتضح رقم عمرك الحقيقي، يا والدي إني لا أطيق الغياب فمن كنت أراه في مقامك يستعد للرحيل، إنه لا يطيل النظر إلي، لم يعد يرغب بالحديث معي، إن عينيه بدأتا تخطان على ثنيات بؤبؤيهما أغاني الأحزان، إنه يشعرني بلحظات المغيب، يشعرني بحلول المساء، بِسكوت الظلام المخيف. قرأت منذ زمن عن قصص الوداع بأشكالها وأراهم جميعاً متفقون على أنه في لحظات الوداع قُل ما تريد دون تردد، أو خوف، أو خجل فربما لا تمنحك الحياة فرصة أخرى لقول ما تريد، وقال أحدهم عن الوداع (منذ كنت طفلاً كنت أكره الوداع، كلمة الوداع بالنسبة لي تعني شكلاً مصغَّراً من أشكال الموت). أخي العزيز والغالي وأنا أجثو حزناً في مراسم وداعك لا أملك سوى أن أرسل لكم في غسق الدجى دعوات صادقة، وذكراً حسناً في غيابك، وسنسعى لأن نسلك طريق المجد، وأعدك بأن تفتخر بي كما طلبت، وسأحاول أن أستدرك هذا الموقف والقدر وأسلم به راضياً بقضائه، وسأكون في بُعدِك كذاك اليتيم الباكي، وسأجعل رقمي المفضل ما حاك في جنباته ذكريات راسخة، سأجعل الرقم (ثلاثة) هو بطل الأرقام لدي، وسأحتفظ ببرجي ففيه نلتقي.