من أجمل ما في الحرم طيوره وألوانه، فللحرم أرواح أبت أن تفارقه فكانت طيورا تحوم في سمائه. ليس لقدسية المكان كلمات تصفه. إحساس بالدهشة يغمرك وأنت ترى بسطاء المسلمين ينسلون إليه من كل حدب وصوب. أتت بهم أشواقهم الروحية وأمنياتهم المغلفة بدعائهم لاجئين إلى الله في بيته الحرام علهم يحظون بسكينة تعينهم على تعب الحياة. داخل الحرم يصعب عليك التفريق بين أغنياء المسلمين وبسطائهم إلا أن الصورة تتبدل حين تخرج لترى إحسان الأغنياء منهم في شراء وجبات الطعام لعابري السبيل. زرت الديار المقدسة بعد أعوام كثيرة لأرى توسعا فندقيا ضخما وسعة كبيرة في الحرم المكي الشريف لا تزال طور البناء. أغلقت هاتفي لأحظى بسكينة افتقدتها قبل الغزو الواتسي بي وشتى سبل التواصل الاجتماعي التي تتعقبنا بنقاشات أغلبها لا طائل منها. رحلتي كانت قصيرة تعلمت منها كما أرجو أن تعلمت عائلتي تنظيم الوقت والانضباط كأحد أهم الدروس فإذا لم تحترم الوقت فلن تجد لك مكانا داخل الحرم للصلاة، متسائلة كيف للمسلمين أن لا يكونوا أكثر البشر انضباطا في مواعيدهم وصلواتهم كتابا موقوتا. هذه الحشود الكبيرة جعلتني أتساءل عن حجم الخبرة المتفردة لدى المملكة في إدارة الحشود البشرية، وعن فاتورتها الأمنية تعاملا مع شتى جنسيات العالم. وسط كل هذا، كان لي بعض المتسع من الوقت لاستكشاف كيف هي الحياة المكية. كيف لي أن أحظى بتجربة النكهة السعودية؟!، فالحضارات يظهر مخزونها الشعبي وامتزاجها الحضاري في أطباقها الشعبية. تمنيت لو أن الأطباق السعودية حاضرة قرب الحرم، فالأكلات السريعة المتوفرة حتما تتناقض مع أجوائه الروحية. أخذني فضولي وحبي للتمور السعودية المميزة إلى زيارة سوق الكعكية الشعبي لشرائها فتمنيت لو كانت تتوفر بالقرب من أسواق الحرم. الخلطة الحضارية في المملكة تظهر في رائحة رغيف التميس وصحن الفول الذي أيضا كنت أتمنى أن أجده قرب الحرم المكي. يقال إن لم تأكل طعام البلد فأنت لن تفهمه، فكيف لي أن أعرف تاريخ وصول التميس الأفغاني إن لم أسأل وأعرف إن كان المطبخ اليمني يختلف تميسه عن السعودي! فنحن نعتقد أن دراسة هذه التفاصيل ليست بأهمية علوم الاقتصاد والسياسة فنتركها للمستشرقين وللباحثين الأجانب لنتفاجأ بعدها بحجم ما يعرفونه عنا، وحجم ما نجهله عن أنفسنا. كل هذا بإمكاني التغاضي عنه -ولو على مضض- إلا القهوة السعودية فهي أول ما تُستقبل به ويبقى عبقها الرائع في مخيلتك فلا يمكنك أن تتصور أنك لن تجدها وقت ما تشتهي وتحب. حقيقة كنت أتمنى أن أرى مقاهي للشباب السعودي قرب الحرم متخصصة في بيع القهوة والتمور السعودية جنبا إلى جنب مع الأسماء العالمية لمقاهي القهوة تشجيعا لهم. سر القهوة العربية في درجة تحميصها وخلطتها وهي بحد ذاتها حكاية تروى فنحن نترك موروثنا الشعبي ليُعاد لنا تغليفه ممن بعدت عليهم حقول البن آلاف الأميال. تمنيت أن أرى محلات سعودية تبيع منتجات سعودية خالصة تعكس غنى التنوع الجغرافي للمملكة، فمن عُرف بتجارة الشتاء والصيف لن يتكل على الريع النفطي وحده طال الزمن أم قصر. الحراك الابتكاري لدى الشباب السعودي كان حتما سيجد أفكارا تمنيت أن أراها في استخدام مواد صديقة للبيئة، فالأعداد البشرية الهائلة التي تستقبلها مكة بحفاوة كرم ستكلفها بيئيا كثيرا إن لم يؤخذ بالحسبان الجانب البيئي، نبدأها باستبدال أكواب البلاستيك بأكواب صديقة للبيئة لسقيا زمزم. مقترحات كثيرة أود أن أسردها إلا أنني واثقة من أنها مسألة وقت حتى أراها في الواقع مع التطور السريع الذي تشهده المملكة كتوسعة الحرم، وإنشاء محطة المترو، وانخراط المرأة في سوق العمل. ومع تنفيذ رؤية المملكة 2030 سيحظى زوار بيت الله الحرام بآفاق أوسع لتشتمل زيارتهم على حزمة متكاملة بجدول منظم لزيارة الأماكن المقدسة الأخرى بخدمات يديرها ويقدمها الشباب السعودي واقعيا ورقميا مثل ما رأيت تطبيقات سعودية تُستخدم بشكل واسع في المملكة. مشاريع ودراسات كثيرة ومقترحات عديدة لا بد أنها طرحت لتنفيذ رؤية 2030 إلا أن الخلطة الحضارية المكية هي روح الإسلام التي أتمنى أن تنعكس في تفاصيل المشاريع والأفكار فلا يغلب عليها التمدن المبالغ وماديته. كانت تلك أمنيات مُحبة بحجم عدد الكفاءات السعودية التي تشرفت بمعرفتها، وتلك التي أقرأ لها كتاباتها الاقتصادية، فتقبلوا مروري البسيط. * كاتبة عمانية [email protected]