تقدمت التقنية في عصرنا وتقدمها أصبح دوامة مخيفة اجتاحت مجالسنا، واكتسحت علاقاتنا الاجتماعية، وفككت روابطنا الأسرية، إذ أصبحنا تحت سقف واحد، ونتبادل الحديث عبر مواقع التواصل الاجتماعي التي نجحت فعلاً في إرغامنا على التواصل عبرها، وقطعت أي أواصر وجسور سواها.استطعنا أن نُكون مجتمعاً خاصاً، زعماً منا لا تتعدى حدوده ذاكرة الهاتف، واستطعنا تحديده، وتشذيبه من المتطفلين والغرباء، ومن الأشخاص الذين تفتقر معرفتنا بهم للألفة والمحبة، وكل ذلك بضغطة زر، فأصبح الركون إلى هذا المجتمع المصغر محبباً ويسيراً، يمكن الهروب إليه في أي وقت، حتى أصبح لا يوجد شيء نجتمع من أجله سوى ما أسميه: «تأدية واجب فقط»، ممسكين بجوالاتنا حتى ونحن نؤدي الواجبات. ما تزال تلك الدوامة مواصلة سيرها تبتلع واحداً فينا تلو الآخر، مداهمة منازلنا، وتقترب من أبنائنا دون أن نشعر، وفي حين وصولها لا يجدر بنا إلقاء اللوم على غير أنفسنا، فنحن من قدم لأبنائنا هذا الطعم مقابل حصولنا على وقت إضافي من الهدوء والمزيد من الرتابة، وبشفافية أكثر مزيداً من الوقت لتصفح جميع مواقع التواصل الاجتماعي. وفي واقع الأمر نحن من ألقى بهم وسط هذا التيار الذي ليس له بداية أو نهاية، بدءاً بتكتيفهم، والحد من حركتهم الجسدية، والفكرية، وحرمانهم من ممارسة طفولتهم، حتى اكتظت زوايا المرافق العامة، وأماكن الانتظار بمناظر الأطفال المنعكفين على أجهزة الجوال، أو أجهزة الآيباد الخاصة بهم دون رقابة، وحتى في البيوت أصبحت الطريقة الوحيدة لإلهاء الطفل هو تسليمه أحد هذه الأجهزة بمثابة مخدر لانفعاله، أو كبسولة كاتمة لصوت، أو وسيلة لتطبيق قانون الثواب والعقاب. وفي المقابل، لم ينتج عن ذلك سوى عقول هيمنت واستحوذت عليها قوة أخرى أكبر وأقوى من سلطة الأب والأم، وهما أول المتلقين لصفعة التمرد، وهما أول شاهد على هشاشة العقل التي متى ما هبت عليه ريح أسقطته. وهنا نتساءل: كيف لجيل أن يواجه العالم الخارجي وطفولته كانت محصورة في حدود عالم افتراضي؟ وماذا عساهم أن يقدموا لأوطانهم ومجتمعاتهم؟ كل ما علينا هو أن نبعد أعيننا عن تلك الشاشات، ونزيح الغمامة لنرى الحقيقة بوضوح، كم كنا نحرص على نظافة ووضوح تلك الشاشات، متأهبين لأي عدوان القصد منه إيذاء فلذات أكبادنا، فعند جلوسك وسط مجموعة من الأشخاص ممسكين بهواتفهم جميعهم؛ فمن الطبيعي أن تنتقل إليك تلك العدوى، ولا شعورياً تجدك قد أمسكت بجوالك، ويبدأ الصمت يقتل روح المشاركة، فلا تنتظر من طفلك أن يستمتع بمنظرك وهو مكبل، ويتفوق على شيء عجزت أنت عن فعله. ختاما: «كلّكمْ رَاع وَكلّكمْ مَسؤول عَن رَعِيتِه».