يبهرني تسمر الصغار أمام شاشة الكمبيوتر من أجل جني الثمار، أو تسميد المزروعات وغير ذلك من نشاط زراعي في مزارع» الفيس بوك». وحقيقة هم يعيشون حياة افتراضية ثانية تعيشك في مجتمع زراعي فيه مزارع وخراف وأبقار وغزلان ودجاج وحتى الخنازير.. فإيجابيات المزرعة الافتراضية أنها تنمي حب الزراعة والتعلق بالأرض، وتطور العقلية التجارية للطفل الذي يشتري ويبيع، ذلك وغيره لا يخفي خطورة إدمان الأطفال والكبار على الوهم، ولا تعجب إن وجدت كبارا يدمنون على مزارع الفيس بوك وقبلها على « البلاي ستيشن». وعلى الشاشات تدور رحى معارك ضارية تتصلب دونها الأصابع وهي تنقر لوحة المفاتيح. ويتشوه العقل والوجدان، وتزدهر سلوكيات المقامرة بكل ما تمثله من انحطاط خلقي. عالم افتراضي مليء بالوهم يشد ويدخل من يطرق أبوابه إلى عالم الإدمان والحياة الخيالية التي يحكمها عالم يختلف في بنائه الثقافي عن واقعنا الحقيقي ويبني مجتمعاً وهمياً، ويمد جذور صداقات لا تعرف أصولها الحقيقية، هذا العالم أصبح سمة عصرنا الحالي، وسقى الله إحدى صديقاتي المقربات التي تعد الهاتف عالما «خياليا» فهي ترفض مناقشة أي مشكلة بالهاتف العادي أو الجوال والسبب أنها لا تستطيع أن تحكم على تعابير الشخص وردود فعله الحقيقية، وأي أقنعة يلبس خلال المحادثة. صمم»مارك جوكر بيرج» الطالب في جامعة هارفارد موقع الفيس بوك عام 2004 وكان الهدف منه أن يجمع تلاميذ جامعة هارفرد ليتبادلوا صورهم وآراءهم وكل أحاديث يتبادلونها وكل ما يتعلق بهم وأطلق موقعه الذي أصبح من أشهر المواقع. لقد أصبح هذا الموقع من أهم المواقع لدرجة أن هناك أشخاصاً أصبحوا مدمنين للتعامل معه والتواجد عليه حيث أصبح يشغل قدراً كبيراً من حياتهم ولا يملكون السيطرة على تواجده في حياتهم، وهذا ما يجعلنا نطلق عليه اصطلاح (الإدمان)، أو ما تم تسميته (بالاعتماد النفسي) وما يميزه فقط عن إدمان المخدرات هو (الاعتماد الفسيولوجي) الذي يتوفر في إدمان المخدرات ولا يتوفر في غيره من الأمور التي ندخلها الآن في فئة الإدمان فمثلا: من أهم أولويات مدمني الفيس بوك هي متابعة حسابه الشخصي قبل أي عمل آخر عند إشراقة كل يوم يرد، يعلق، يناقش، ومابين أصدقائه وعلاقاته الاجتماعية الحقيقية تنمو كثير من الجذور الغريبة، امرأة بمسمى رجل والعكس، علاقات لا تستند إلى أي أسس، إباحية تفوق الخيال، شخصيات ترتدي ألف قناع وآخرى تظل على بساطتها، ويصبح الإدمان ظاهرة. مجتمع الفيس بوك مجتمع يقوم على العلاقات غير المباشرة ويتيح للفرد التعامل مع أكبر عدد ممكن من الأصدقاء والناس، ولأنه افتراضي وخيالي فهو لا يحتاج إلي مهارات اجتماعية لإدارة مثل هذه العلاقات وهو خيالي فلا أحد ممكن أن تجزم أن شخصيته هذه هي الحقيقية خصوصاً إذ كنت لا تعرف الشخص، فالكثير يرتدون أقنعة، وقد يصبح أحدهم بطلاً «وصاحب قضية خصوصا» إذا انتمى إلى مجموعة معينة أو تبنى بعض الاتجاهات الدينية أو الاجتماعية أو السياسية، والشخصيات الأكثر إدمانا «للفيس بوك هي الشخصيات التي لديها وقت فراغ كبير أو التي تعاني من صعوبة التواصل الاجتماعي وإقامة العلاقات السوية فتشيد عالم خيالي تهرب إليه ويحقق لها بعض السعادة الزائفة ولو لبعض الوقت. ويمثل العاطلين عن العمل أكثر الفئات إدمانا لهذا الموقع والنساء والشخصيات الانطوائية هي الأكثر ارتيادا له، وهذا الموقع يشكل عامل جذب لكثيرين ممن يعانون مشاكل عاطفية واجتماعية حيث يصبح الفضاء الافتراضي واقعاً «بديلاً» لإقامة العلاقات الزائفة التي تمنحه الثقة والزهو ولو لبعض الوقت. مساحات الحرية التي يمتلكها الفرد في مجتمعنا في ارتياده لتلك المواقع كبيرة، حرية تفتقد للضوابط وهذا يشكل مشكلة اجتماعية وخصوصا «في مرحلة المراهقة والطفولة المتأخرة، فأغلب الأسر تمنح أبناءها هذه الحرية دون رقابة أو حتى تعريف بما يواجههم من المخاطر، أعتقد أنه يجب أن نبني أسس الحرية الشخصية وتحمل المسؤولية الذاتية وبناء الرقابة الذاتية وتدريبهم على كيفية التعامل مع هذه العولمة التي نتوه نحن الكبار في متاهاتها. هناك برامج ومواقع آخرى كثيرة والفيس بوك لايمثل سوى مثل لهذه المواقع، وقد نقول أنهم سيصابون بالملل لكن الواقع أن الأجيال الجديدة هي أجيال التقنية، لذا فعملية التطور تكون متسارعة وهم لديهم القدرة والمهارات والاستعداد لاقتحام أي عالم جديد وبقوة بحيث أنه يصبح سمة مجتمعية لفترة معينة ثم ينتهي حتى يأتي برنامج جديد أو تطوير جهاز جديد لتبدأ مرحلة جديدة والبلاك بيري وإدمانه مثل آخر لهذه الظواهر السائدة في مجتمعنا فلم تعد ترى عيون الآخرين إلا وهي تنظر إلى شاشات جوالتها، حتى الأطفال أصبحوا يتباهون في اقتنائه والانتماء لعالمه، التقنية لها وجهان، وقد أكون أجحفت في الجانب الإيجابي ولكن الحقيقة أن معالجة السلبيات هي مايهمني، فالعالم يتغير بسرعة والرهان على أجيالنا الإلكترونية رهان بين مستثمرين وشركات تقنية ومابين الثقة اللامتناهية وفضاءات الحرية الممنوحة لهم فهل نستطيع بناء الإحساس بالمسؤولية تجاه أنفسهم قبل كل شيء ليتمنكوا من المحافظة على أنفسهم وقيمهم وثقافتهم في ظل هذا العالم الافتراضي؟