انتشرت في العالم العربي ظاهرة تزايدت كثيراً بعد بدايات (الربيع)، وتصدر مشهدها موظفون سابقون وجدوا فيها مصدراً جيداً للكسب المادي والبقاء في دائرة الضوء الإعلامي وشغل الوقت بعد خروجهم من الخدمة العامة أو رغبة في اقتحامها مرة أخرى.. إنها منظمات الدفاع عن حقوق الإنسان! تابعت هذه الظاهرة على الساحة اليمنية، ولأني أزعم معرفتي بكثيرين ممن يديرونها وخلفياتهم السياسية والاجتماعية والمهنية، وجدت أنهم غالباً ما ينخرطون في تناول ملفات الآخر المختلف ليس لتصحيح مفاهيمه وتصرفاته ولكن لإدانته وإحراز نقاط عليه، في وقت يدافعون - وفي أفضل الأحوال - يبررون ما تصنعه الجهات التي يرتبطون بها، وأيضاً - وهو الأهم عندهم - تأمين حياة طيبة لهم ولأسرهم في المهجر، والحصول على تصريح إقامة دائمة ومريحة في الغرب خصوصاً. السؤال الملح الذي يتبادر إلى ذهن أي متابع لنشاطات هذه المنظمات هو: من الممول؟ ما الغرض الحقيقي؟ ما هي رسالتهم؟ لا يبدو الأمر - وحتماً هو ليس كذلك - اهتماماً بمعاناة المتضررين والسعي لتحسين أوضاعهم الحقوقية والإنسانية، فالغالب على من يحضرون النشاطات أنهم يمنيون يعيشون بهدوء في الخارج بعيدون عن الهم اليومي، ويتم استجلابهم وحشدهم للمشاركة تحت عناوين مختلفة، في حين يكون الدفاع عن القضية في مؤخرة اهتماماتهم، ويصبح التجول في العواصم الغربية مجرد انتقال لقضاء وقت مريح مع الأصدقاء أو السفر للسياحة. إن التدقيق في الأمر يشير إلى ضعف نوعية الحضور وانعدام تأثيرهم الفعلي إعلامياً، ويثبت ضعف القائمين على الندوات التي لا تتجاوز في فعاليتها جدران مواقع اللقاءات، وهو ما يضعف من قيمة الحدث وقيمة القضية فتصير مجرد تجمعات لا وزن لها، ولا يقدم الحاضرون فيها فعلاً إيجابياً يخفف على الذين يعانون فعلاً في الداخل، بل أضحت استغلالاً مبتذلاً لما يتعرضون له من قهر وقسوة وبؤس. أتاحت الحرب اليمنية فرصة نادرة قد لا تتكرر لعرض الذات في سوق (حقوق الإنسان) وتناثرت المنظمات التي لا يستدعي إشهارها في الغرب أكثر من ورقة عادية وعنوان ورقم هاتف، ويتم الإعلان عنها في حفل لا يحضره سوى المؤسس وعدد من المساهمين معه، ثم بعد ذلك يتم طرح المنتج الجديد في مزاد مغلق للمضاربين، ولكن المؤكد - من حسن الحظ - أن هذه الأقنعة المزيفة التي تنتشر في هذا المناخ الموبوء لا تعيش طويلاً لأن بقاءها مرتبط بمهمة بعينها ولا تنشط في آفاق أرحب. أنا على يقين أن الغرب والعالم العربي به منظمات ذات مصداقية عالية ومصادر تمويلها معروفة ومراقبة ومصروفاتها معلنة دون قيود، ولكن منطقتنا العربية صارت تمثل نقطة سوداء فاضحة في هذا المجال الإنساني ولا يخجل القائمون عليها من إبراز شخصياتهم والاستعانة بعدد من حملة الألقاب والشهادات العليا التي صرت أشك في صحة الكثير منها بحكم تجربتي كسفير في الهند، وكم أتمنى أن أكون مخطئاً في نظرتي السلبية تجاهها، ولكن الواقع لا يمنحني فرصة الشك في عدم جديتهم وعدم صدق نواياهم وعدم صدق رغبتهم في أداء خدمة إنسانية. إننا إذا ما أردنا النظر باحترام إلى المنظمات التي تكاثرت مثل الجراد وإعادة الاعتبار إلى الجادة منها فمن الواجب التنبه إلى مصادر التمويل، وأن يكون شفافاً ومدققاً ومعروفة الجهات الممولة، ولا يعني هذا أن تتدخل الجهات الحكومية الرقابية في نشاطات هذه المنظمات بل على العكس فمن الواجب حمايتها وتقديم العون القانوني لها، وحينها سيكون بإمكان الرأي العام أن يكون هو الحكم في النظر إلى هذه الأجسام التي صارت مراكز غير موثوق في جديتها ولا تصلح للحديث عن انتهاكات حقوق الإنسان من أي جهة كانت، وتصير النظرة لها سلبية كونها ليست أكثر من وسيلة للإثراء غير المشروع. * كاتب يمني وسفير سابق