على الرغم من أن المنظمات غير الحكومية كيانات «غير حكومية» إلا أنها تتلقى في أغلب الأحيان تمويلًا حكوميًّا كبيرًا وربما تسعى إلى تحقيق أجندات سياسية. تصنيف المنظمات غير الحكومية في أغلب الأحوال تصنيف مضلِّل، إذ برزت خلال العقود العديدة الماضية ظاهرة جديدة تسمى المنظمات غير الحكومية المدعومة حكوميًّا، وهذه الجماعات مستقلة رسميًّا عن الحكومات، لكنها في الواقع تعتمد على الدعم والتمويل الحكوميين، سواء من الداخل أم من الخارج. المجتمع المدني مجال يقع بطبيعته خارج نطاق الحكومة. وفي أعقاب رحلة قام بها المفكر ألكسيس دو توكفيل إلى أمريكا في مطلع ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وبدافع من إعجابه الشديد بالمجتمع المدني الأمريكي، كتب يقول في كتابه الذي يحمل عنوان «الديمقراطية في أمريكا» Democracy in America: «أيما مشروع جديد وجدت على رأسه مؤسسة حكومية في فرنسا أو رجلًا ذا منصب في إنجلترا، فستجد على رأسه يقينًا في الولاياتالمتحدة إحدى المنظمات الأهلية». كان المفكرون من أمثال توكفيل يثمنون ويدعون إلى فصل الحياة الخاصة عن الحياة العامة وإلى القدرة على تشكيل تنظيمات خارج إطار الدولة. ويشمل المجتمع المدني أي شيء بداية من جمعيات رجال الأعمال وانتهاء بجماعات الكشافة المرشدات والجمعيات الخيرية ودوريات البولينغ. وكل هذه أشكال من التنظيمات، السياسية منها وغير السياسية، التي لا تلعب فيها الحكومة أي دور. وتوجد داخل المجتمع المدني فئة فرعية يشار إليها عمومًا باسم المنظمات غير الحكومية، وهذه الجماعات عبارة عن كيانات لا تهدف إلى الربح وتوفر الخدمات وتجري البحوث وتمارس العمل الدعوي. وتتمتع هذه المنظمات، كما يوحي اسمها، بجذور ضاربة في المجتمع المدني ولا تربطها علاقة بالحكومة وغالبًا ما ينظر إليها الناس باعتبارها رقيبًا على الحكومة. على الرغم من ذلك، فإن هناك الكثير من المنظمات غير الحكومية التي هي ليست كيانات غير حكومية بالمعنى الحقيقي للكلمة. وتستغل الحكومات هذه الجماعات كأدوات لكسب النفوذ وتحقيق الأهداف التي لا يمكن لها العمل على تحقيقها بشكل مباشر. وأبرز ما تكون هذه الظاهرة في أوروبا الوسطى والشرقية وفي دول البلقان، حيث استغلت الحكومات الأجنبية– من الغرب ومن روسيا على حد سواء– المنظمات غير الحكومية من أجل تحقيق أهداف جغرافية سياسية. فقد حالت المحدوديات المالية وأحيانا القانونية في هذه المنطقة دون ظهور جماعات أصلية مستقلة بمعنى الكلمة عن النفوذ الحكومي. وبالتالي فإن توصيف المنظمات غير الحكومية في الغالب توصيف مضلل يخفي وراءه غرضًا سياسيًّا. ويتمخض التمويل الحكومي المقدم إلى المنظمات غير الحكومية عن فئة جديدة من المنظمات السياسية. فهذه الجماعات في حدها الأدنى في وضع ملتبس، وفي حدها الأقصى صارت منظمات حكومية وبالتالي لم تعد جزءًا من المجتمع المدني. الغرب وروسيا.. المنظمات غير الحكومية المدعومة حكوميًّا في بعض الأحيان تستغل الحكومات وأجهزة الاستخبارات المنظمات غير الحكومية لتعزيز النفوذ والسعي إلى تحقيق أهداف استراتيجية، إذ سعت أجهزة الاستخبارات الغربية والسوفيتية دائبة أثناء الحرب الباردة إلى ممارسة نفوذ على الجماعات المحلية في البلدان موضع اهتمامها، فعمدت وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية سرًّا إلى تمويل منظمات من القطاع الخاص، بالإضافة إلى صحف وأحزاب سياسية، للمساعدة على تشكيل الرأي العام في أوروبا. وعندما أنشئ صندوق المنح الوطنية من أجل الديمقراطية– وهو من أهم الوسائل الأمريكية لدعم المنظمات غير الحكومية في الخارج– في ثمانينيات القرن الماضي، أنشئ على هيئة شراكة بين القطاعين الخاص والعام وذلك– في المقام الأول– لحمايته من التدخل أو الاتهامات بضلوع أجهزة الاستخبارات. وعلى الرغم من ذلك فما زال الصندوق يعتمد على التمويل المقدم من الحكومة الأمريكية في تقديم عدد كبير من الألف ومائتي منحة التي يقدمها كل سنة إلى المنظمات غير الحكومية في الخارج. هذا الاعتماد المالي على الحكومة الأمريكية، فضلًا عن تقديم منح إلى المنظمات غير الحكومية المنخرطة في الترويج للقضايا الاجتماعية وتحقيق الأجندات السياسية التي تتفق مع المصالح الأمريكية «وأحيانًا الأنشطة المناهضة للحكومة في بلدها الأصلي»، جعل الشكوك تحوم حول صندوق المنح الوطنية من أجل الديمقراطية وغيره من المؤسسات الكبرى الممولة من الحكومة «كالوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمعهد الديمقراطي الوطني والمعهد الجمهوري الدولي» واحتمال استمرار ضلوع وكالة الاستخبارات المركزية في أنشطتها. وعلى مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية، قدّم صندوق المنح الوطنية من أجل الديمقراطية والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والمعهد الديمقراطي الوطني والمعهد الجمهوري الدولي ونظيرتاه الألمانيتان مؤسسة فريدريش إيبرت ومؤسسة كونراد أديناور وطائفة كبيرة من المؤسسات الحكومية والخاصة الأخرى الدعم لمنظمات غير حكومية في أوروبا الوسطى والشرقية تروّج للحكم الديمقراطي والانتخابات العادلة وتدريب الشباب والناشطين وجهود مكافحة الفساد والشفافية. ويتم تمويل هذه المشاريع إلى حد ما لتحقيق أهداف تعزيز الحركات الموالية للغرب في المنطقة وتشجيع التكامل الأوروبي في بلدان مثل مولدوفا وأوكرانيا. تلقت المنظمات غير الحكومية في أوكرانيا، التي تعتبرها روسيا منطقة عازلة استراتيجية مهمة وتتنافس فيها واشنطن والكرملين على النفوذ، تمويلًا كبيرًا من الحكومات الغربية، بشكل مباشر وغير مباشر. ووفقًا للوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، فإن أعلى المؤسسات الأجنبية التي تمول الجماعات في أوكرانيا هي الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية والوكالة السويدية للتعاون الإنمائي الدولي «كيان حكومي» ومؤسسة موت «مؤسسة تابعة للقطاع الخاص ومقرها في الولاياتالمتحدة» ومؤسسة النهضة الدولية «أحد فروع مؤسسة المجتمع المفتوح الخاصة التي تتخذ من الولاياتالمتحدة مقرًّا لها» ووزارة التنمية الدولية البريطانية «كيان حكومي». وتشير التقديرات إلى أن الولاياتالمتحدة أنفقت فيما بين عامي 1992 و2014 ما بين 3 مليارات و5 مليارات دولار على هيئة مساعدات مقدمة إلى أوكرانيا. وعلى مدى العقد الماضي، ذهب جزء كبير من هذه المعونات إلى المنظمات غير الحكومية، ولا سيما الجماعات المعنية بقضايا الحكومة ومكافحة الفساد والديمقراطية، والجماعات التي كانت لها يد في الثورة البرتقالية الموالية للغرب لسنة 2004. شبكة «المواطن الجديد»، على سبيل المثال، ائتلاف من المنظمات غير الحكومية التي كانت ضالعة في تنظيم الجولة الأولى من المظاهرات الاحتجاجية ضد حكومة الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش في عام 2014 توسّع فيما بعد إلى حركة الميدان، مما أدى في نهاية المطاف إلى سقوط الحكومة. وكان ائتلاف المواطن الجديد قد تلقى قبل ذلك تمويلًا من منظمات أمريكية ممولة من الحكومة. وكانت المنح الأمريكية المقدمة إلى المنظمات غير الحكومية الأوكرانية تخصَّص في أغلب الأحوال لتدريب الناشطين أو مراقبي الانتخابات، وبلغ مجموعها في بعض الأحوال مئات الآلاف من الدولارات. غير أن الجهود الأمريكية تواصلت حتى بعد سقوط حكومة يانوكوفيتش. ومن الأمثلة الحديثة على المجهودات الأمريكية في أوكرانيا استخدام صندوق المنح الوطنية من أجل الديمقراطية نظام «سيفي» الخاص به لإدارة الاتصالات على الإنترنت، مما يساعد المنظمات غير الحكومية الأوكرانية وأعضاء البرلمان في التواصل مع الناخبين، فيسمح لهم بإرسال رسائل نصية ورسائل بريد إلكتروني جماعية إلى آلاف المؤيدين. وفي الوقت نفسه، نجد أن بعض مشاريع المنظمات غير الحكومية الممولة من الحكومة الأمريكية لديها أهداف استراتيجية صريحة، إذ يدير المعهد الجمهوري الدولي حاليًا، بدعم من صندوق المنح الوطنية من أجل الديمقراطية، مشروعًا يهدف إلى «تطوير ائتلافات سياسية وإنتاج مواد تفنّد حملات الخداع الروسية». تمخض ضلوع منظمات من قبيل الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية وصندوق المنح الوطنية من أجل الديمقراطية في تمويل المنظمات غير الحكومية الموالية للغرب والمشاريع الديمقراطية عن مخاوف– وفي الوقت نفسه شكوك– بين بعض الحكومات في المنطقة من أن الحكومات الغربية تعكف على محاولة التحريض على الثورات الملونة «حركات الاحتجاج الشعبية التي تهدف إلى تغيير الأنظمة الحاكمة». ففي بلدان مثل بيلاروس وأذربيجان وروسيا، بُذلت جهود قوية للحد من قدرة المنظمات غير الحكومية على العمل والوصول إلى تمويل أجنبي. اللافت للنظر أن صندوق المنح الوطنية من أجل الديمقراطية صار في يوليو 2015 أول منظمة أجنبية تُحظر في روسيا بموجب قانون جديد أصدره الكرملين ضد المنظمات غير الحكومية الدولية «غير المرغوب فيها». ومثلما هو الحال مع الحكومة الأمريكية وبعض الحكومات الغربية، تمول روسيا أيضًا المنظمات غير الحكومية وتستغل هذه الجماعات من أجل تحقيق أهدافها الجيوسياسية. وتوجد أدلة تثبت وجود صلات قوية بين أجهزة الاستخبارات الروسية، ولا سيما جهاز الأمن الفيدرالي، والمنظمات غير الحكومية المدعومة من روسيا. والحقيقة أن بعض الأموال والسلع التي يستخدمها المتمردون المدعومون من روسيا في منطقة دونباس نُقلت من خلال ما يسمى على الورق تبرعات خيرية أرثوذوكسية. يدور التمويل الروسي لجماعات في أوروبا الوسطى والشرقية في المقام الأول حول تمويل الجماعات والمشاريع ذات الصلة بالمجتمعات الناطقة بالروسية بالإضافة إلى المجتمعات السلافية والأرثوذوكسية. والأداة الرسمية التي تستخدمها الدولة الروسية لتوسيع نفوذها في مجال المنظمات غير الحكومية في الخارج هي الهيئة الفيدرالية لشؤون رابطة الدول المستقلة والمواطنين المقيمين في الخارج والتعاون الانساني الدولي، التي تتخذ مكاتب في الخارج وتقوم بدور مؤسسة مقدِّمة للمنح. وفي الوقت نفسه، تقدم وزارة الخارجية الروسية ومكتب رئيس الجمهورية أيضًا عددًا كبيرًا من المنح للجماعات الصديقة لروسيا والمدعومة روسيًّا. وتستخدم روسيا أيضًا الكنيسة الأرثوذوكسية لبناء نفوذها. علاوة على ذلك قدّمت الشركات المملوكة للدولة وبارونات الأعمال المقربون من الكرملين التمويل للمنظمات غير الحكومية المدعومة من الكرملين في المنطقة. وتشمل هذه الجماعات مؤسسات ثقافية ومنظمات شبابية ومنظمات غير حكومية معنية بحقوق الإنسان، وتتراوح أنشطتها من الترويج للغة الروسية إلى مشاريع التاريخ والمؤتمرات والحملات الإعلامية والمعسكرات الشبابية والدورات التدريبية لتشكيل الرأي العام ونشر الرؤى المؤيدة لروسيا فضلًا عن بناء روابط بين روسيا والمجتمعات المحلية في عموم المنطقة. كانت أوكرانيا ومولدوفا وجورجيا محط تركيز الكثير من هذه المشاريع، فيما تساند روسيا في الوقت نفسه منظمات غير حكومية في دول البلقان ودول البلطيق. وقد توصلت دراسة أجرتها مؤسسة تشاتام هاوس في عام 2016 إلى أن مؤسسة العالم الروسي، التي تمولها الدولة الروسية تمويلًا مباشرًا، جعلت من أوكرانيا محور تركيزها فأنفقت حوالي مليون دولار سنويًّا في المقام الأول على مشاريع ذات صلة بالجماعات الموالية لروسيا والمبادرات الرامية إلى التشديد على الانقسامات اللغوية بين الناطقين بالأوكرانية والروسية داخل البلد. نقص التمويل المستقل على الرغم من وجود تباينات في عموم أوروبا الوسطى والشرقية، تعتمد المنظمات الحكومية في غالبية المنطقة اعتمادًا مباشرًا أو غير مباشر على الحكومات؛ لأن المنظمات غير الحكومية في عموم الكتلة الشيوعية السابقة غير قادرة– إلى حد كبير– على البقاء ماليًّا من دون الدعم الحكومي الداخلي أو الدعم الخارجي. ويوضح الرسم البياني الموجود نتائج دراسة أجرتها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في عام 2015 بشأن استدامة «منظمات المجتمع المدني» في أوروبا الوسطى والشرقية. ويشير الحصول على نتيجة تتراوح بين 1 و3 إلى أن معظم الجماعات تتمتع بتطبيق نظم سليمة للإدارة المالية، وتجمع نسبة مئوية كبيرة من تمويلها من مصادر محلية، وتتمتع بمصادر تمويل متعددة. ويشير الحصول على نتيجة تتراوح بين 3.1 و5 إلى أن الجماعة المعنية، على الرغم من أنها تظل معتمدة إلى حد كبير على الجهات المانحة الخارجية، تجرّب استخدام سبل أخرى لجمع الإيرادات، غير أن الكساد الذي يعانيه الاقتصاد المحلي قد يعوق جهودها الرامية إلى جمع الأموال من مصادر محلية. وتشمل هذه الفئة الوسيطة طائفة واسعة من البلدان التي تمتد من دول البلطيق إلى دول البلقان. وأخيرًا فإن الحصول على نتيجة تتراوح بين 5.1 و7 يشير إلى أن معظم الجماعات خاملة إلى حد كبير بعد فشلها في الفوز بتمويل من جهة مانحة أجنبية. وفي هذه الفئة تقيّد الحكومات الوصول إلى الموارد– الأجنبية أو المحلية– من خلال القوانين أو الوسائل الأخرى. وتشمل هذه الفئة بلدانًا مثل بيلاروس وأذربيجان. تكشف هذه البيانات عن حقيقتين مهمتين فيما يخص المنظمات غير الحكومية، حتى في الأجزاء التي تقل فيها القيود القانونية نسبيًّا على أنشطة المنظمات غير الحكومية في المنطقة. أولًا: تعاني الجماعات الكائنة في البلدان ذات الاقتصادات الضعيفة من صعوبة في العثور على مصادر تمويل محلية وبالتالي يزداد احتمال اعتمادها على الحكومات الأجنبية أو الجهات المانحة الدولية للحصول على التمويل والدعم. ولا يوجد غير بلدين وهما بولندا وإستونيا تندرجان في الفئة العليا التي تعتبر فيها الجماعات قابلة للبقاء من الناحية المالية. وأما الأغلبية الساحقة من البلدان فتندرج في الفئة الثانية، التي يقوض فيها تردي الأوضاع الاقتصادي جهود جمع الأموال المحلية. يرجع هذا التفاوت إلى حقيقة أن معظم بلدان أوروبا الوسطى والشرقية ما زالت متأخرة اقتصاديًّا عن نظيراتها الغربية. وفي الوقت نفسه أدى تكامل الاتحاد الأوروبي إلى زيادة حدة التفاوتات الاقتصادية. فوفقًا لبيانات البنك الدولي، يزيد نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في بولندا عن سبعة أمثاله في مولدوفا. وعلى الرغم من أن معظم التمويل المقدم إلى الجماعات في بولندا يأتي من مصادر محلية، فإن ما يقدر بثلاثة وثمانين في المائة من التمويل المقدم إلى الجماعات في مولدوفا يأتي من جهات مانحة خارجية. وبالتالي توجد علاقة قوية بين ثروة بلد بعينه ومستوى اعتماد منظماته على التمويل الخارجي. الحقيقة الثانية المهمة التي تتمخض عنها بيانات الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية هي أنه حتى في البلدان الأكثر ثراء التي تتمتع فيها الجماعات بمستويات عالية من الاستدامة المالية ولا تحتاج إلى الاعتماد بشدة على مصادر التمويل الخارجية، نجد أن هذه الجماعات ما زالت في الأغلب تعتمد على التمويل الحكومي الداخلي. فعلى سبيل المثال، وجدت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية في بولندا أنه على الرغم من حقيقة تبرّع ما يقدّر بنحو 29 في المائة من البولنديين لصالح الجمعيات الخيرية في عام 2014، ما زالت الحكومات المحلية هي مصدر التمويل الرئيس. ويسلط هذا الاعتماد الضوء على أنه بالرغم من وجود تمويل أكبر متاح إجمالًا في البلدان المتقدمة في المنطقة، فإن التمويل المحلي من القطاع الخاص والأفراد محدود حتى في بلدان أوروبا الوسطى والشرقية الأكثر ثراء. وفي معظم الأحوال تُضطر الجماعات في عموم المنطقة إلى الاعتماد على أموال من مصادر حكومية محلية أو كيانات أجنبية. محدوديات المنظمات غير الحكومية على الرغم من أن روسيا والغرب يمولان المنظمات غير الحكومية، إلا أنه يوجد عاملان يقوضان فعالية المنظمات غير الحكومية كأداة للنفوذ. أولًا: يوجد افتقار عام إلى ثقة الجماهير في هذه الجماعات، إذ كشف استطلاع للرأي في جورجيا أجرته منظمة الشفافية الدولية في عام 2015 عن أن 22 في المائة فقط من المشمولين بالاستطلاع يثقون في «منظمات المجتمع المدني». وفي مولدوفا وجد استطلاع للرأي أجراه معهد السياسات العامة في عام 2015 أن 24.2 في المائة فقط من الجمهور يثقون في هذه الجماعات. وفي أوكرانيا يثق 45.7 في المائة من السكان في منظمات المجتمع المدني بحسب استطلاع للرأي أجراه مركز رازومكوف. وينبع هذا الافتقار إلى الثقة من الحقبة السوفيتية وكذلك من إدراك أن المنظمات غير الحكومية تعتمد في أغلب الأحوال ماليًّا على الحكومات– الخارجية أو الداخلية– أو بعض المصالح الخاصة. ثمة عامل آخر هو أن محور تركيز عمل المنظمات غير الحكومية غالبًا ما يُترجَم إلى عقد هذه الجماعات ورش عمل أو تنظيمها مشروعات مع شركاء يغلب عليهم الاتفاق معها في الرأي. فعلى سبيل المثال، غالبًا ما تشتمل مشاريع نشر الديمقراطية أو بناء القدرات الممولة من الغرب على شركاء ومشاركين موالين للغرب بالفعل. وعلى صعيد مماثل نجد أن تركيز المنظمات غير الحكومية الممولة من الكرملين على المجتمعات الناطقة بالروسية والمجتمعات الأرثوذوكسية يعني أن اشتمال عملها غالبًا على أفراد متأثرين بالفعل بوجهات النظر الموالية لروسيا. ومن ثم فإن تمويل المنظمات غير الحكومية ليس طريقة شديدة الفعالية للتأثير على صنع القرار والرأي العام. وعلى الرغم من ذلك فإن كلا الجانبين يرى تمويل المنظمات غير الحكومية كأداة ضمن مجموعة متنوعة من الأنشطة التي تقوّي في مجموعها موقف هذا الجانب في المنطقة. وتشمل هذه الأدوات تمويل وسائل الإعلام كإذاعة أوروبا الحرة الممولة من الحكومة الأمريكية وشبكة روسيا توداي الممولة من الدولة الروسية. وفي حالة روسيا نجد أن هذه الأدوات تشمل أيضًا بناء العلاقات بل وأحيانًا تقديم الدعم المالي للأحزاب السياسية القائمة بالفعل والمناهضة للمؤسسة أو المشككة في جدوى الاتحاد الأوروبي أو الموالية لروسيا. وفيما يخص الغرب، يعتبر التكامل من خلال إبرام اتفاقيات انتساب مع الاتحاد الأوروبي وخيارات السياسات من قبيل السفر دون تأشيرة وتقديم القروض إلى الحكومات سبلًا مهمة للتأثير على صنع القرار والرأي العام في المنطقة. خاتمة يتم تقديم المنظمات غير الحكومية بوجه عام ككيانات مستقلة تشكل إحدى ركائز المجتمع المدني، لكن هذه الجماعات لا تمثل في بعض الحالات جزءًا من المجال الخاص الذي أيده توكفيل وآخرون. وتمول الحكومة الأمريكية والحكومات الغربية الأخرى علانية المنظمات غير الحكومية في أوروبا الوسطى والشرقية وفي دول البلقان فضلًا عن مناطق أخرى. وفي الوقت نفسه، تدعم روسيا أيضًا شبكتها الخاصة بها من المنظمات غير الحكومية في ظل تنافس كلا الجانبين على كسب النفوذ. وما إن تعتمد جماعة ما على التمويل الحكومي، سواء من بلدها الأصلي أو من قوى خارجية، فإنها لا تعود جزءًا من المجتمع المدني بالمعنى الحقيقي للكلمة، بل بالأحرى مجرد كيان ترعاه الحكومة يمكن استغلاله كأداة لتحقيق الأهداف السياسية. نتائج الدراسة التي أجرتها الوكالة عن استدامة «منظمات المجتمع المدني» في أوروبا الوسطى والشرقية