تساءل بعض الأصدقاء ما إذا كنت أبحث عن الإثارة في تسمية البحر الأحمر ببحر مكة في مقالتي السابقتين عن هذا البحر الهام والحيوي لبلادنا ولحياتنا وحياة الشعوب المتجاورة حول حوضه وللعالم كرابط بين القارات والمحيطات ومعبر للتجارة وإمدادات الطاقة. وأجيب بأن تسميات هذا البحر كثيرة مثلما هي تسميات الخليج العربي كثيرة، ولكن إصرار إيران على تسميته بالفارسي جعلت التسمية موضع نزاع. ولكن تسمية البحر الأحمر ببحر مكة أو خليج العرب هي تسمية قديمة ذات جذور غير عربية وإن كانت تخدم الأغراض العربية، خاصة بعد ظهور نظرية يرجحها جمع من الجغرافيين المعاصرين تقول بأن البحر الأحمر ليس أحمر، وأن القول بأن موت طحالب (تريشوديستيوم إريثريام Trichodesmium erythraeum ) وطفوها فوق سطح البحر لا يعطي في الحقيقة لوناً أحمر إنما لوناً بنياً أو باهتاً، وأن التسمية تعود إلى أن بعض اللغات الآسيوية القديمة تستخدم كلمات ملونة للإشارة إلى الاتجاهات الأساسية، واسم الأحمر يشير إلى الاتجاه جنوبًا، تمامًا كما يشير اسم البحر الأسود إلى الشمال والأبيض إلى الوسط. وقد ورد أن هيرودوت المؤرخ الإغريقي القديم استخدم مسمى البحر الأحمر بالتبادل مع البحر الجنوبي، ولذلك لا أرى غضاضة باعتماد مسمى (بحر مكة) كرديف أو بديل لمسمى البحر الأحمر طالما أن الاختيار متاح ومعظم دول حوضه عربية. وبتجاوز المسمى هناك مسائل على قدر كبير من الخطورة لا بد من التعامل معها عند الحديث عن هذا البحر وفي مقدمتها أنه مازال بحرا غير مستقر جيولوجياً وما زالت أعماقه تشهد طحناً وتفاعلات بركانية عجيبة تزيد في غموضه وتفتح مستقبله على مختلف الاتجاهات. فالبحر الذي نشأ عن كسر أخدودي غامض في قشرة الأرض فصل قارة آسيا عن أفريقيا في هذا الجزء من العالم بمساحة تقدر ب 438 ألف كم2 وبحجم وصل إلى 215.058 كم3 ومتوسط عمق وصل إلى 491 متراً وعمق أقصى وصل إلى 3040 متراً هو في الحقيقة ما زال يتسع بمعدل يتراوح بين 1-2 سم في العام. ولربما لا يهتم غير المختصين بظهور جزيرتين بركانيتين جديدتين في أرخبيل جزر الزبير اليمنية جنوبي البحر الأحمر، حيث ظهرت أولاهما في ديسمبر 2011 وتسمى الآن جزيرة شعلان، وظهرت الثانية في سبتمبر 2013 وتسمى الآن الجديدة. ومع وجود انبعاثات بركانية تتجنبها السفن العابرة قرب تلك المنطقة كل ما يهمنا نحن (العامة) في هذا الشأن أن نعرف بأن العلماء خاصة في جامعة الملك عبدالله وجامعة الملك عبدالعزيز وهيئة المساحة الجيولوجية يتابعون باهتمام شديد ما يجري هناك وما يجري من تحركات من وقت لآخر في الوسط، خاصة في حمأة العيص البركانية وما ينتج عنها من زلازل تؤثر على (أملج) وجزرها والمناطق المحيطة بها، وكذلك الأمر بالنسبة للتحركات الزلزالية المتتابعة في الشمال، في خليج العقبة وخليج السويس.. ومن المسائل الهامة الأخرى التي لا بد من التعرف عليها في البحر الأحمر مسألة هيدروليكية مفادها أن البحر الأحمر من أشد بحار العالم ملوحة بشكل عام وتتراوح ملوحته بين (36-39 جزءا في المليون) بسبب التبخر العالي، وانخفاض معدل هطول الأمطار وعدم تدفق نهر رئيسي فيه. وعادة ما تكون الملوحة أقل في جنوبه بسبب المياه المتدفقة من خليج عدن. أما تجدد المياه فيه فبطيء، والتبادل مع المحيط يستغرق حوالى 6 سنوات لارتفاع 200 متر فوق خط الحرارة و200 سنة للبحر بأكمله. ورغم أن هذه الملوحة عالية مقارنة بباقي البحار والمحيطات إلا أنها تتضاءل جداً مقارنة ببعض المواقع العميقة في البحر الأحمر ذاته. ففيه مواقع عميقة يزيد عمقها على 2000م وتسمى (برك المياه العميقة المالحة)، و(أحواض المياه المالحة)، و(المياه الساخنة)، و(بحيرات قاع البحر)، لأن المياه المالحة الكثيفة التي تكونها لا تختلط بسهولة مع مياه البحر فوقها بسبب كثافة المحلول الملحي ما يعطيها شكلاً مميزا عما حولها. ويعتقد بأن في البحر الأحمر أكثر من 15 بركة عميقة مختلفة الأحجام أكبرها اثنتان تقعان قبالة (مكةالمكرمة) عرفتا باسم سفينتي الأبحاث التي اكتشفتهما (ديسكفري)، عام 1964 و(أتلانتس 2) عام 1965 بملوحة حوالى 255 أجزاء لكل ألف، بمعنى أنها تزيد في ملوحتها بحوالى 7 أضعاف عن أعلى درجة ملوحة في البحر نفسه. ولم تفصح هذه البحيرات عن كل ما فيها غير أن درجات حرارة الأولى هي 44 درجة والثانية هي 56 درجة مئوية، ودرجات الحرارة هذه تزيد كثيراً عن درجات حرارة المياه السطحية الموسمية في البحر الأحمر التي تتراوح فيما بين 22 و32 درجة مئوية. وتزيد أكثر بكثير عن حرارة المياه تحت عمق 300 متر في باقي أجزاء البحر، خارج نطاق البحيرات، والتي تستقر فيما بين 21 و22 درجة مئوية. ونعرف أيضاً أن أتلانتس 2 ساكنة سكون القبور ولكن ديسكفري تنتابها هبات من حين لآخر تدفع بأنواع من المعادن والأطيان إلى سطحها، ما دفع بالسعودية والسودان لتوقيع الاتفاقية التي أشرنا إليها في مقالة سابقة للاستثمار فيها بشكل مشترك بحكم وقوعها في المنطقة الاقتصادية المشتركة. كما نعرف أيضاً أن الكائنات الحية الكبيرة كالأسماك لا تعيش في هذه الأعماق ولكنها تمتلئ بطبقات من الرواسب اللزجة الملونة الغنية بالنحاس والحديد والمنجنيز والزنك والمعادن الأخرى. ولقد وصف الباحثان ايغان ديجينز وديفيد روس هذه الرواسب أبلغ وصف بالقول «إن تباين اللون رائع: يمكن ملاحظة جميع ظلال الأبيض، الأسود، الأحمر، الأخضر، الأزرق، أو الأصفر»، «ربما تضعف بعض اللوحات الرملية الهندية الملونة والسجاد المكسيكي عن تحقيق مثل هذا التباين في رواسب البحر الأحمر ووضوح ألوانها». ونعرف أخيراً أن هناك بعض الجامعات ومراكز البحوث العالمية مازالت تجري دراسات وأبحاثاً مشتركة وفردية في هذه البرك والكل يتكتم على ما يتوفر له من معلومات إما لتحقيق سبق علمي أو لأهداف أخرى. أما المسألة الثالثة التي أود استعراضها معكم هنا فهي متعددة الجوانب البيئية والجغرافية والطبوغرافية وقبل كل هذا وبعده السياسية، وهي مسألة ربط البحر الأحمر بالبحر الميت فيما يعرف بقناة (البحرين). ذلك المشروع الذي يغيب ويظهر ويبدو أن إسرائيل بدأت في التفكير جدياً في صرف النظر عنه وربما تستبدله بمشروع إحياء بحيرة طبريا بإعذاب مياه البحر المتوسط والأحمر وضخ المياه للبحيرة، ما دفع بالإعلام الأردني للتهديد باستمرار الأردن في المشروع بمفرده والبحث في إمكانية مشاركة المملكة العربية السعودية في مشروع ال 10 مليارات دولار، وخط الأنابيب بطول 220 كيلومترا لنقل المياه من البحر الأحمر إلى البحر الميت لفائدة الدول المشاطئة للبحر الميت وتجديد مياهه المتناقصة. وأغلب الظن أن هذا المشروع المتعثر سيبقى متعثراً ما لم يتزايد الطحن والطحين في أعماق البحر الأحمر وما يتبعه من براكين وزلازل قد تتسبب بتوسيع الكسر الأخدودي الذي تملأه مياه البحر أو يحدث صدع جديد يتسبب في اتصال البحرين مباشرة من غير تكاليف. هذا هو بحر مكة وهذه بعض صفاته ومفاجآته التي تتوالى يوماً بعد يوم، وعلينا أن نقبل بمقولة بعض العلماء بأنه محيط ناشئ ما زال في طور التكوين وقد لا تعيش أجيال كثيرة بعدنا لتراه كبيراً مستقراً مكتمل النمو.. * اقتصادي وباحث إستراتيجي سعودي alitawati@