بدأ البريطانيون يفيقون على خطورة قرار غالبيتهم في مايو 2016 الخروج من عضوية الاتحاد الأوروبي. وبدأ «صداع بريكست» يدهم رؤوس البريطانيين أكثر فأكثر مع اقتراب أجل انتهاء مفاوضات لندن مع المفوضية الأوروبية في بروكسل. ولا يبدو أن في الأفق ثمة أملا يُذكر في إمكان خروج بصفقة تجنب البريطانيين دفع ثمن باهظ لمغادرتهم القارة العجوز. وعلى رغم أن زعماء ونواباً وسياسيين ومفكرين طالبوا بأن يتم إجراء استفتاء ثانٍ على البقاء أو الخروج من أوروبا، فإن رئيسة الوزراء المحافظة تيريزا ماي تتمسك بأن ذلك من المستحيلات، بدعوى أن قرار الناخبين الموافقة على بريكست يستحيل دستورياً تعطيله أو تعديله أو إلغاؤه. ومن الواضح أن حزب المحافظين الذي أدخل البلاد في الاتحاد الأوروبي في سبعينات القرن الماضي سيكون أكثر دفعاً لثمن إخراجها منه. فقد خسر المحافظون رئيسة الوزراء السابقة مارغريت تاتشر، بسبب الخلاف الداخلي حول أوروبا، إثر الهجمات التي شنها مناهضو البقاء الذين أطلق عليهم آنذاك لفظ Eurosceptics. وخسروا رئيس الوزراء السابق ديفيد كاميرون الذي غامر بطرح فكرة الاستفتاء.. الخوف هذه المرة ليس على مصير تيريزا ماي وحدها؛ بل هل سيجد حزب المحافظين نفسه في مهب الريح؟ وهل سيؤدي بريكست إلى أفول نجم المحافظين، ومعارضيهم العمال ليبزع نجم اليمين الأوروبي والغربي المتطرف؟ هذه وغيرها أسئلة تتطلب إجابات أكثر إحاطة بمواقف جميع القوى السياسية في بريطانيا والغرب. يعرف المحافظون بأنهم «الحزب الطبيعي لتولي الحكم». وقد استطاعوا على مر التاريخ أن ينهضوا من الكبوات التي أبعدتهم عن الحكم. لكن الرأي الغالب وسط المحللين والمراقبين لشؤون الحكم في بريطانيا يرون أن الخروج من أوروبا سيخرجهم من الحكم ليدخلوا مرحلة تيه سياسي قد يستغرق طويلاً جداً. ويقول المعلق البريطاني مارتن جيمس إن المحافظين ليسوا حزب يمين الوسط الوحيد في أوروبا الذي يواجه ضغوطاً لا قبل له بها من اليمين المتطرف، والوطنيين الشعبويين. لقد تجاوز المحافظون الحربين العالميتين، وبقوا في الحكم على رغم إسدال الستار على «الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» في عهدهم. وتجاوزوا خلافات عدة مع القارة العجوز، مرة تلو الأخرى. ويرى المتفائلون أنه سيكون بمستطاع المحافظين اجتياز أزمة بريكست، مهما كانت مفاعيلها. فقد كان حزب المحافظين حاكماً حين أعلن تنصيب الملكة فكتوريا إمبراطورة على الهند في القرن التاسع عشر. وقاد الحزب نفسه، وهو في الحكومة، عملية تفكيك الإمبراطورية، تحت زعامة رئيس الوزراء هارولد ماكميلان الذي أعلن وقوفه مع ما سماه «رياح التغيير». وهو التفكيك الذي استمر من العام 1957، بمنح «ساحل الذهب» استقلالها لتصبح جمهورية غانا، حتى العام 1980، حين تخلت مارغريت تاتشر عن روديسيا، لتصبح زيمبابوي. غير أن المتشائمين يرون أن أوروبا التي كانت على الدوام سبباً لشقاقات مؤثرة داخل الحزب العتيق، لن تكون عقبة يسهل القفز عليها كما حدث في المرات السابقة؛ إذ إن مغادرة الاتحاد الأوروبي أمر يتعلق بالاتجاه الذي ينبغي أن تسلكه بريطانيا، ومكانتها في الساحة الدولية، ومستقبل تعاونها مع القوى الكبرى في العالم. كما أن المحافظين أنفسهم جربوا على مدى سنوات، منذ أن قاد زعيمهم رئيس الوزراء الراحل البلاد إلى عضوية الاتحاد الأوروبي في مطلع سبعينات القرن الماضي، وضع «مِصَدّات» قوية لضمان عدم الاندماج التام في القارة العجوز. لكن ذلك لم يُجدِ فتيلاً. فقد تزعم قادة منهم وليام هيغ، وإيان دنكان سميث، ومايكل هوارد الدعوة إلى مبدأ «داخل أوروبا ولكن ليس أن تديرنا أوروبا». ويذكر كثيرون كيف وافق البريطانيون على قرار مارغريت تاتشر انضمام البلاد إلى السوق الأوروبية الموحدة؛ بيد أن غلاة المناهضين للوحدة مع أوروبا رفضوا أن تتخلى الإمبراطورية عن الجنيه الإسترليني، لتتعامل باليورو. والواقع أن أوروبا ظلت سبب حرب حامية الوطيس داخل حزب المحافظين منذ العام 1980. وحاولت تاتشر إبان سنوات حكمها مقاومة «الفيديرالية» الأوروبية. وشاع عندئذ مصطلح «الرّهاب من أوروبا» Europhobia. وانتهت الحرب على أوروبا داخل الحزب العجوز بإطاحة تاتشر في 1990. ولم يكف المتصلبون في مناهضتهم للاتحاد الأوروبي عن الضغط لإخراج بلادهم منه. فقد عمد بعضهم إلى تكوين «حزب الاستفتاء». وتلا ذلك قيام «حزب استقلال المملكة المتحدة» UKIP. وحتى بعدما تولى الزعامة ديفيد كاميرون، لم يجد بداً من محاولة استرضائهم بالدعوة إلى استفتاء شعبي بشأن البقاء أو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وهو الاستفتاء الذي صُعِق كاميرون نفسه بنتيجته في 2016، فاضطر إلى الاستقالة. الآن تحاول رئيسة وزراء حكومة المحافظين تيريزا ماي القتال بكل أسلحتها داخل الحزب وخارجه لتحقيق نهاية بأقل الخسائر الممكنة لبلادها. فهي تعتبر نفسها ملزمة دستورياً بتنفيذ رغبة الناخبين الذين صوتت غالبيتهم لمصلحة الخروج. لكنها تريد في الوقت نفسه صفقة خروج لا تترك اضطراباً اقتصادياً وسياسياً يمكن أن يتسبب في هزيمة انتخابية للمحافظين الذين ظلوا يحكمون بريطانيا 35 عاماً من الأعوام ال 46 الممتدة من 1951 إلى 1997. وهو أمر يصعب أن يتأتى لها بينما يتقرب موعد «بريكست» المحدد بنهاية مارس 1919. وقد أوضحت ماي لنواب حزبها أن على البلاد أن تستعد لاحتمال الخروج من دون صفقة. ووضعت الخطة المعروفة باسم «خطّة تشيكرز»، إثر اجتماعات شابها توتر كثيف مع وزرائها في المقر الريفي لرئيسة الحكومة خارج لندن. وتسعى إلى حمل أوروبا على الموافقة على بقاء بريطانيا ضمن الاتحاد الجمركي الأوروبي. لكن المفاوضين الأوروبيين في بروكسل يرون أن على بريطانيا أن تطلب بدلاً من ذلك البقاء ضمن السوق الأوروبية الموحدة. ويشترطون أن يكون ثمن ذلك موافقة لندن على الالتزام بالقوانين الأوروبية، والاتفاقات التي تحكم السوق الموحدة، وأن توافق على حرية التنقل والإقامة المعمول بها في الاتحاد الأوروبي، وأن تظل محكمة العدل الأوروبية هي السلطة القضائية الأعلى في الفصل في النزاعات الفردية والتجارية. ويرى الموالون لتريزا ماي أن شروط بروكسل لا تعدو أن تكون إخراجاً لبريطانيا من الاتحاد الأوروبي عبر الباب، ليدخل الاتحاد مجدداً عبر النافذة. والأشد خطورة في الشروط الأوروبية أن تبقى أيرلندا الشمالية مفتوحة الحدود على الجمهورية الأيرلندية. ولذلك أعلنت ماي أخيراً أنها لن تقبل أي ترتيبات من هذا القبيل، لأن من شأنها المساس باستقلال المملكة المتحدة التي تضم أسكوتلندا، وإنجلترا، وويلز، وأيرلندا الشمالية. وغمزت من طرف خفي إلى أن بروكسل لم تتعامل معها باحترام بهذا الخصوص، على رغم أنها ظلت تحترم مفوضية الاتحاد الأوروبي على الدوام. وهيأت رئيسة الوزراء شعبها لاحتمال بريكست بلا اتفاق، مطمئنة المواطنين الأوروبيين الذين يعملون في بريطانيا بأن حقوقهم ستظل محترمة، وأن استثماراتهم ستبقى في أمان. ومن الواضح أنه ما لم يُبْدِ المفاوضون الأوروبيون قدراً من المرونة في مفاوضات بريكست، فإن خطة تشيكرز لن تكتب لها حياة. وأضحى مسموعاً ومشاهداً في القنوات الإخبارية البريطانية تهديدات نواب ولوردات محافظين بخطط لإجبار ماي على التنحي، وطرح أسماء لخلافتها، من قبيل وزير الخارجية السابق بوريس جونسون، ووزير بريكست المستقيل ديفيد ديفيز، والوزير الحالي مايكل غوف. فضلاً عن دعاة البقاء ضمن أوروبا غير راضين عن خطة تشيكرز، لأنها لا تشمل اتفاقاً مع أوروبا بشأن الخدمات، وهو قطاع اقتصادي يرون أنه مهم للغاية لاقتصاد البلاد. المحافظون البريطانيون ليسوا وحدهم! لا مندوحة من القول إن أوروبا أضحت تشكل تهديداً وجودياً existential لحزب المحافظين البريطاني. وهو خوف حقيقي يلمسه البريطاني على صفحات الصحف، وشاشات التلفزة، ونقاشات البرامج الإذاعية، وفي ما يتبادله البريطانيون في الأسواق والمقاهي من أحاديث. وبما أن أوروبا- الانتماء إلى اتحادها أو عدمه- ظل السبب الرئيسي لتشظي حزب المحافظين خلال العقود الستة الماضية، فإن المحافظين باتوا يخشون ألا يكون النهوض من أزمتهم الداخلية ممكناً هذه المرة؛ خصوصاً أنهم لم يفوزوا بالغالبية سوى مرة وحيدة خلال الانتخابات العامة الست الأخيرة. لكن هل يعني أنه إذا تحققت التكهنات بسقوطهم في الانتخابات القادمة سيكون الطريق مفروشاً بالورود أمام عودة حزب العمال للحكم؟! سؤال تصعب الإجابة عنه، لأن حزب العمال أشد تشظياً من المحافظين، ويفتقر إلى زعيم يملك الكاريزما الشعبية الكفيلة بفوزه بغالبية تقوده للحكم. وفي أتون هذه الأزمة، بدأ حزب الديموقراطيين الأحرار (الليبراليون) يسعى بقيادة زعيمه الحالي سير فينس كابل إلى تجديد الحزب حتى يصبح خياراً طبيعياً للناخبين الممزقين بين المحافظين المتصارعين والعمال الذين ليست لديهم جاذبية تذكر لدى الشارع البريطاني. وكما قال رئيس الوزراء العمالي السابق توني بلير الأسبوع الماضي إن الناخبين البريطانيين لن يطيقوا أن يكون خيارهم فقط إما جيريمي كوربن أو بوريس جونسون. ويعتقد - بحسب مجلة «ذي ويك»- أن كابل الذي ينوي التقاعد من السياسة العام القادم سيسعى إلى جعل حزبه منصة مفتوحة لاحتضان النواب العمال الناقمين على كوربن، والمحافظين المنادين بالبقاء في الاتحاد الأوروبي، دون أن يلزمهم الانضمام إلى الليبراليين بأي مواقف صارمة. لكن هل هي أزمة المحافظين وحدهم في القارة العجوز؟ في ألمانيا يواجه حزب اتحاد المسيحيين الديموقراطيين الذي تتزعمه المستشارة أنجيلا مركل محنة مشابهة. فمع أنه ظل يتولى منصب المستشارية بنسبة 71% من الفترة التي تلت قيام الجمهورية الفيديرالية في عام 1951؛ إلا أنه خسر عدداً كبيراً من المقاعد النيابية لمصلحة حزب AID الوطني في الانتخابات الأخيرة، بسبب خلافات جوهرية مع مركل بشأن سياساتها المتعلقة بالمهاجرين. وربما لذلك استغرق الأمر وقتاً طويلاً قبل أن تتمكن مركل من تشكيل حكومتها الحالية. وفي فرنسا، واجه حزب الجمهوريين، الذي ظل يسيطر على قصر الإليزيه نحو ثلثي الفترة التي أعقبت قيام الجمهورية الرابعة، ضربة قوية في الجمهورية الخامسة، حين فشل في دخول جولة ثانية من الانتخابات الرئاسية، ليفوز إيمانويل ماكرون بحزب تم تكوينه قبل أشهر فحسب من إجراء الرئاسيات العام الماضي. وفاز الجمهوريون بأقل من ربع عدد مقاعد الجمعية الوطنية (البرلمان). وفي إيطاليا، حيث ظل للمسيحيين الديموقراطيين حضور فاعل في جميع الحكومات الإيطالية خلال الفترة من 1946 إلى 1994، وحيث لم تنخفض نسبة فوزهم بمجلس الشيوخ عن 38% منذ 1953 إلى 1979؛ لم يعد لهم وجود يُذكر في أعقاب فضائح رئيس الوزراء السابق سيلفيو بيرلسكوني. وحقق حزبهم «فورزا إيطاليا» بقيادة برلسكوني نفسه المرتبة الرابعة في الانتخابات التي أجريت في مارس 2018، وانتهت بفوز تحالف الأحزاب الوطنية والشعبوية التي تحكم إيطاليا الآن. ويرى المحللون أن الأزمة المالية العالمية في عام 2008، عجلت بالقضاء على أحزاب يسار الوسط في أوروبا، خصوصاً حزب العمال الجديد بقيادة بلير في بريطانيا. حدث ذلك في بريطانيا، وفرنسا، واليومان، وألمانيا، وهولندا. واجتاحت رياح التغيير العاتية أحزاب يمين الوسط في القارة العجوز بلا استثناء، في أقلّ من عشر سنوات من تلك الأزمة. فقد بدأت هذه الأحزاب تعجز عن الحصول على الغالبيات الكافية للانفراد بالحكم. واضطر بعضها إلى محاولة تبني بعض شعارات الشعبويين واليمين المتطرف، في مسعى لركوب الموجة. غير أنها لم تكن مُجدية. وأخذت شعبيتها في التضاؤل والانحسار، ليصعد اليمين المتطرف بقضايا تتصدرها الهجرة، والموقف من المهاجرين. وشيئاً فشيئاً بدأت تضمحل سطوة ما يطلق عليه «المؤسسة» Establishment، التي أضحى الشعبويون ينظرون إليها باعتبارها سيطرة لمجموعة من النخب الأوروبية التي تريد أن تتحكم بالعالم إلى ما لا نهاية؛ خصوصاً أن أحزاب يمين الوسط ظلت تحكم البلدان الأوروبية نحو 70 عاماً منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية. وتقتسم الأحزاب الوطنية الشعبوية أهدافاً رئيسية عدة، يتصدرها الرجوع للقبضة الحدودية القوية لمنع تدفق المهاجرين، والعودة إلى العملات الوطنية، وحكاية الاقتصاد الوطني. ووجدت تلك الأحزاب دفعة قوية إثر فوز الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بالرئاسة في 2016، وانتهاجه سياسات تروم تحقيق تلك الأهداف نفسها. بيد أن ذلك قد لا يعني أن اليمين الشعبوي سيصبح حليفاً وثيقاً للجمهوريين الأمريكيين بزعامة ترمب، في ضوء ما يلوح من احتمال وقوع حرب تجارية بين أوروبا والولايات المتحدة، وبين الأخيرة والصين. كما أن الأوضاع الاقتصادية الراهنة في الديموقراطيات الغربية الخاضعة لأحزاب يمين الوسط لا تساعدها على تثبيت أقدامها بعد الهزائم المتوالية لمصلحة الوطنيين والشعبويين. ففي كل دولة غربية يجأر السكان بالشكوى من ارتفاع أسعار المنازل، وجمود الأجور، وتضعضع صناديق التقاعد، وهي المجالات التي ظلت تكسب بها تلك الأحزاب الانتخابات، مدعية أنها الأقدر على معالجة تلك الاختناقات، والتعجيل بالخروج من دورات الركود الاقتصادي التي أعقبت أزمة العام 2008. هل ينجو الأوروبي نفسه ؟ فتح بريكست باباً واسعاً لانتياش الاتحاد الأوروبي بمزيد من الانتقادات. فقد تساءلت مجلة «ويرلد هيستريز» التي تصدرها هيئة الإذاعة البريطانية في عددها لشهر أكتوبر 2018، وفي موضوع أبرزته على غلافها: هل كان الاتحاد الأوروبي تجربة ناجحة؟ وقدمت له بالقول إن بعضهم يرى أن المشروع الأوروبي الطموح بعد الحرب العالمية الثانية يمثل انتصاراً مظفراً، أدى إلى ضمان السلام، وإنعاش الاقتصادات في بلدان القارة الأوروبية. لكن آخرين ينعون عليه أنه كابوس بيروقراطي مفزع، وأنه إن عاجلاً أو آجلاً سينهار من داخله؛ وأنه على رغم نجاحاته في تحقيق التعاون الاقتصادي بين دوله الأعضاء، إلا أنه لم ينجح في تحقيق التدامج المنشود بين شعوب البلدان الأوروبية. في ظل هذه الرؤى المتضاربة، والأفكار المتحاربة، والغموض الذي يلف مستقبل العالم كله، وليس أوروبا وحدها، لا يستطيع أي بريطاني أن يتكهن بما ستؤول إليه الأمور قبل أو بعد بريكست.. وتيريزا ماي نفسها ليست مستثناة من ذلك!