غالباً ما يوصف المجانين أو من يصابون بانفصام في الشخصية، براحة العقل، وأنهم في رغدٍ مقارنة بغيرهم، لأنهم لا واقع لهم يعيشونه أو يتعاركون معه، كذلك هم الهاربون من الواقع الذي يعيشونه، هم أقرب للمجانين ممن يتمتعون بعقولهم، فالهروب من الواقع شعور يجد معه الشخص الرغبة في أن يكون كالريشة تماماً في مهب الريح، لا حيلة له ولا قوة، طلبا للراحة والاستقرار! ومع هذا فالإنسان الذي يعيش معظم حياته في نطاق الراحة وطلباً لها فضلاً عن أنه لن يكتسب الخبرات والمهارات، فإنه لن يجد طعم الراحة، فالطمأنينة تأتي عند المواجهة والإقدام والترقب والتنوع في معالجة كل قضية ومسألة بما يوائمها، فالحياة بصعوباتها وأنماطها وتقلباتها ليست كنسيج متسق مصمم لكل شخص بما يلائمه وحسب هواه، بل هي سنن وأقدار وحكم وأسرار يقضيها الله على عبادة حكمة منه واختبارا وابتلاء لهم، وإن كانت السلامة في بعض الأحيان في عدم المواجهة والترك، إلا أن ذلك لا يعفيك من ظروف الحياة التي ترغمك على المواجهة، حينها لن يكون خيار الهروب هو الخيار الأنسب، لأنها ظروف تتطلب ردود أفعال تماماً مثل السفينة التي تسير في وسط البحر وتتلاطمها الأمواج، ولم تقاوم، هل كان بإمكانها الوصول إلى بغيتها؟ بالتأكيد لا، فالإنسان هو السفينة وعدم مواجهته لهذه الظروف لن تزيلها أو تنهيها، بل ستزيدها حتى تقضي عليه، كما أن الهروب لا يكون إلا إلى المجهول على عكس اللجوء فإنه يكون لمعلوم ومأمون، ولأن الهارب لا يدري متى ستنتهي معاناته بالهروب، فهروبه لا أمد له ولا حد لنهايته فهو يفتك بالإنسان في كل لحظة حتى يصرعه، بل إن الهروب قد يتدرج بالإنسان من حيث لا يشعر حتى يلجئه إلى التعاطي، فالذين يتعاطون الخمور أو المخدرات ليس بالضرورة للمتعة والنشوة بقدر ما هو هروب، ليس مما يحيط بهم من ظروف وأشخاص فحسب، ولكن ما بداخلهم من صراعات ومنغصات وتناقضات وهواجس، فالمتعاطي بإمكانه الهروب مما يحيط به من كائنات بالتواري عن الأنظار وملازمة الوحدة ولكن أنى له أن يتوارى عما بداخله، وهم أحسن حالاً لا أقول من المجانين، بل ممن يلجأ في نهاية المطاف إلى الانتحار. شريحة أخرى من الناس تلجأ إلى نوع آخر من التعاطي وهو ما يعرف بأحلام اليقظة، فهي نوع من الوسائل التي قد يلجأ لها الهارب من الواقع تخفيفاً عن نفسه، والسبب أنها غالباً ما تكون عبارة عن توليفة من خيالات يعيشها مع نفسه، يتقمص فيها الهارب أدوار البطولة، وهي بطولة تشعره بالنشوة وتبعده عن ألم الواقع، لذا نجد أن صاحب المشكلة يتضاءل لديه هول الصدمة تدريجياً مع الوقت نظرا لاختلاف معطيات التعامل معها، فحال المريض بعد مضي سنوات من مرضه ليس كحاله في بداية ظهوره وعلمه به، نظرا لاختلاف المعطيات التي تعامل بها مع المرض.