عادة ما تبدأ الصراعات السياسية الكبرى بتصريحات وعنتريات وغرور لا مبرر لها، فقط لإرضاء الجماهير والهتّيفة من طراز ما فعله بعض الحكام العرب طوال عقود، وهو ما أعطى للدول الكبرى الذريعة «للبطش» الاقتصادي وأحيانا العسكري. نتذكر هنا معمر القذافي ومحاولاته العبث بالنظام الدولي وإسقاطه لطائرات مدنية ودعم منظمات إرهابية ثم الصعود لمنصات «الكلام» لفرد عضلات صوتية لم تغنِ عنه شيئا، فلا تحيات الجماهير ولا حرارة أكفهم حمته وبلاده من مصير محتوم، ما قام به القذافي فعله من قبله صدام حسين وغيرهما الكثير. في العام 1989 أي بعد عام تقريبا من انتهاء الحرب العراقية الإيرانية، نشبت أزمة دبلوماسية حادة بين العراقوبريطانيا، نتيجة لاعتقال السلطات العراقية صحفيا بريطانيا اسمه «فرزاد بازوفت»، أُتهم بالتجسس لصالح إسرائيل. بدأت الحكاية بتوافد عدد من الصحفيين الغربيين على العراق إثر انتهاء الحرب لتقديم تقارير وإجراء لقاءات من داخل العراق، صادف خلال تواجد الصحفيين وقوع انفجار هائل في مصنع عسكري على أطراف بغداد اهتزت له المدينة بالكامل، حاولت السلطات إخفاء الأمر إلا أن الصحفيين الغربيين كانوا قد نزلوا للشارع بحثا عن معلومة، صادف أن الصحفي البريطاني يعرف ممرضة بريطانية تعمل ضمن فرق الإغاثة التي توجهت لموقع المصنع العسكري، وهي بدورها أدخلته إلى نطاق المصنع، استطاع بازوفت تصوير الموقع وإجراء لقاءات في محيطه، وما هي إلا أيام حتى بدأ بالاستعداد للسفر حين قُبض عليه في المطار وهو متجه إلى لندن ليودع السجن بتهمة التجسس وليعدم لاحقا. أخذ الموضوع بعداً آخر عندما التقطته الصحافة البريطانية شديدة التأثير في المشهد، وتبنته رئيسة الوزراء ماغريت تاتشر مطالبة بإطلاق سراحه. هنا «غابت الحكمة» واستبدلت بالعنتريات، فخرج صدام مخاطبا الجماهير العراقية والعربية معلنا تحديه للطلب البريطاني ورافضا إطلاق سراح الصحفي، لم يكتف بذلك بل قال إن مصنع الصواريخ موقع الإنفجار الذي زاره الصحفي وأخذ صورا له لم يكن عملا صحفيا بل عمل تجسسي لصالح تل أبيب، وأن الصحفي كان يبحث عن جهاز توجيه الصواريخ، قام صدام بطريقة مسرحية بإخراج الجهاز وقال: هذا ما يبحث عنه، ثم أردف سنقوم بإحراق نصف إسرائيل بالصواريخ الكيماوية الموجهة. كانت المرة الأولى التي يعلن فيها العراق عن امتلاكه أسلحة الدمار الشامل المحرمة دولياً، لا، بل وهدد باستخدامها ضد دولة أخرى، كانت أصداء التهديد الذي قيل على هامش الخطاب أقوى من قضية «الصحفي» نفسها، لقد أعطى صدام دون أن يعي الذريعة للغرب بالتدخل في بلاده. أما إسرائيل فقد حشدت الغرب ضد صدام مهددة باتخاذ ما يلزم لحماية نفسها من تكرار مذابح الهلوكوست واستخدام الأسلحة الكيماوية. أحس صدام بأنه انزلق نحو خطأ فادح ولم يعد قادراً على التراجع العلني خاصة أن الصحافة العربية وإذاعات «الصمود والتصدي» طارت بتصريحاته ونصبته الزعيم الأوحد. كان كمن رمى نفسه في بحر من الرمال المتحركة وما عاد يستطيع الخروج منها، بل كلما حاول الحركة غاص أكثر، قادته سياساته المتهورة المتناقضة للتصعيد إعلامياً لإرضاء الجماهير ومحاولة التهدئة تحت الطاولة للمحافظة على كرسيه. أرسل للملك فهد مستنجدا يطلب وساطته لدى البريطانيين والأمريكان، وكانت رسالته لا تأخذوني على محمل الجد لقد كان الأمر مجرد خطبة حماسية أمام الجماهيرلا أكثر، بالطبع استسلم صدام لأصوات المطبلين والجماهير وواصل محاكمة الصحفي البريطاني حتى أعدمه. لقد فتح على نفسه نيرانا لم تنطفئ وهو ما شهده العراق من تدمير لبنيته العسكرية والاقتصادية إثر ملاحقات استمرت لعقد ونصف للكشف عن أسلحة الدمار الشامل انتهت أخيرا بإعدامه. ما فعله صدام يفعله أردوغان اليوم الذي رضي أن يزج به إخوان الكويت وقطر ومصر في مصير مجهول، مستجيبا للشعبوية وأصوات الهتّيفة، ولم يستوعب درس من سبقوه، فما تدخل الحركيون والإخوان في قضية إلا دمروها وما دفعوا بحاكم إلا إلى الهاوية. وكأن الأقدار تتكرر والقصص تتطابق، فأردوغان يسجن القس الأمريكي ويتهمه بالتجسس ويصعّد ضد أمريكا ويحاول من تحت الطاولة أن يجد حلا للخلاف على شرط أن يظهر هو المنتصر إرضاءً للجماهير والحمقى والمغفلين. في هذه المرة يقوم أردوغان بما يمكن تسميته بانتحار سياسي، كما وصفته صحيفة الغارديان البريطانية في تقرير نشر لها أمس الأول، فهو زعيم مغرور اقترض بتهور حتى وصل إلى 50% من الناتج المحلي، إضافة لغرور سياسي في تعامله مع جيرانه وأوربا وأمريكا، وينحو للتحدي والتصعيد برفضه إطلاق سراح «القس» الأمريكي رغم المطالبات الأمريكية، ثم يهدد الغرب بالتحالف مع الروس والإيرانيين وينسى أنه عضو في حلف الناتو الذي أنشئ أساسا لمواجهة روسيا والوقوف إستراتيجيا أمامها، فهل سيقبل الحلف أن تبقى تركيا عضوا فيه وفي الوقت نفسه حليفا لعدوها الإستراتيجي، وأخيرا هل سينجو وهل ستنجو تركيا من مصير محتوم ينتظر كل القادة المغرورين. * كاتب سعودي