تعالت صيحات (رحمة) من حجرة طينية غارقة في الظلام والبؤس والبرد القارس، و(عبدالرحيم) يردد «يا الله مقدور خير، يا الله فلّك لها» كان الليل في منتصفه إلا قليلاً، القرية تبعد عنه مسافة، لكن الجميع غارق في النوم، وكان يشاور نفسه «من ينجدني، وعند من ألقّي في ذا الليل» عزم أن يتحرك لطلب من تساعد زوجته على الولادة. طرق باب منزل (جمعان) كونه الأقرب له، سمع صوته ينادي: افتح، افتح قوام، فردّ عليه «والله ما افتح لك، عبطت رأسك يا مخذول وجئت تدقدق بيبان الناس تالي ليل»، انتخى بشهامته وأقسم أنه بوعيه لكن زوجته تلد وما عندها أحد، ويبغي جمعة تفزع. تبعه جمعان وجمعة، وعندما، دفع الباب ودعاهما للدخول تأخر (جمعان) وتقدمت جمعة، فوجدت الجنين معلّقا بحبله السري، وروح رحمة صعدت لبارئها. كان (عبدالرحيم) وحيداً مقطوعاً من شجرة، فحمل جمعان وجمعة الشيمة في المولود، واختارا له اسم (بشير) ونقلاه إلى منزلهما بموافقة أبيه الذي لم يجد غضاضة ولم يزد أن قال «اعتبريه ولدك يا جمعة وأغرورقت عيناه». منذ أن فتح بشير عينيه على الدنيا ووجهها الصبوح أوّل ما يستقبله صباح كل يوم، ألفها، وألفته، كانت تستيقظ مبكراً لتطلب من أمها أن تتركه لها لتعتني به، وتلتزم لها أنه سيكون في رعايتها إن كانت بتسرح، فتتعمد إخراجه من الميزب، وتشميسه، وتضع في فمه تمرة، وتراقبه وهو يتحلّبها، ثم عندما يتفلها تلتقطها وتضعها في فمها وتبلعها. نما الطفل سريعاً وفي كنف (عود الأكسير) تجذّرت فيه إنسانية وعاطفة وحب للناس، وتزوج والده من امرأة نكدة، ومنذ صبيحة العرس طلبت منه أن يستعيد ابنه، فقال: يا مخلوقة خليه عند جمعة بعد يمدينا، فحمّرت عيونها، وقالت: تفلح تجيبه ذلحين، ولا تخليني أعيد الكلام، فانتفض، وتحفش ثوبه وما وقف إلا عند جيرانه، ووقع في جدل طويل، فعود الأكسير تقسم ما يأخذه، وأبوها وأمها يقولان «وش عليك منه، ولده وهو أبصر به». للحديث بقية وسلامتكم.