هناك أمكنة تعيش في الذاكرة مختبئة ولكنها مرشحة دوماً للظهور في أي لحظة وكأن الزمان لم يمر عليها، وهكذا تستدعيك دوماً لأنها حية دون أن تدري، المكان الأول المتلبس بالطفولة يبقى في عقر القلب يصاحبنا في كل الأمكنة التي نزورها ولا يبرحنا وإن وجدنا ما هو أجمل منه ولا نفوق أو نتخلص أو نشفى من حنينه وذكراه، لذلك يظل هذا المكان يقبع في قعر الرائية، أكتب اليوم عن (شعب عامر) لماذا (شعب عامر) لأنني أحببته وأحب من يحبه وأحب كل من ولد وعاش أو مر به، ولدت وترعرعت وحزنت وفرحت وحلمت في (شعب عامر) كان الزقاق ملعباً والرصيف أريكة والحائط مسنداً، حي كان سكانه يعطرون مياه الشرب بماء الزهر، أحببت (مكة) من حبي له وأحببته من حبي (لمكة)، عندما تنثال الذاكرة تأخذ أشكالاً.. ثلاث صور وأحداث واضحة وجلية وصور وأحداث ملتبسة تحتاج إلى تدقيق وفرز للاقتراب من الحقيقة وصور وأحداث تستدعيها الذاكرة حسب ما تمنى الإنسان أن تكون وليس كما كانت وبالتالي تعكس أماني الإنسان وأحلامه وقت وقوع تلك الأحداث ولا تخلو ذاكرتي المنثالة من كل هذه الأشكال، في ذلك الحي كانت الأرض لنا وللطيور السماء، ومع كل الشقاء المالي القاسي كنا نستمع الى (أم كلثوم) كلما أذاعت صوت العرب لها حفلة أذكر يوم غنت (أنت عمري) كنت مع أشقائي (أبناء عم إبراهيم سروجي) رحمه الله؛ نشرب الشاهي ونستمع بحسرة المراهقين، وكلما قالت (أنت عمري) نتفاعل ونطلق الآهات الزرقاء ونستذكر حبيباتنا كما نتخيلهن، واستمعنا إلى عبدالحليم بدون أي دمعة حزن فحياتنا كانت بسيطة كماء الينبوع، وقرأنا أرسين لوبين وشارلوك هولمز ومحمد عبدالحليم عبدالله ويوسف السباعي ونجيب محفوظ والمنفلوطي، وأكلنا العدس بأشكاله المختلفة في بيت (عبدالقادر مغربي) فتة بالعدس، ملوخية ناشفة بالعدس ومازال العدس صديقي الحميم عكس أولادي!! كان الحي عائلة واحدة والجار هو العم أو الخال أو ستي أوجدي أو أخي أو أختي، كان الحي مجتمعا متضامنا متحاببا يتشارك في الفرح والحزن والأحلام، فالأفراح والأحزان كان الجميع يتعاون للقيام بها كبيت واحد وضحكة واحدة، كانت ثقافة التعاون والحب سائدة في الحي، وكان كامل الحي يتحرك برغبات سكانه المتنوعة والمكملة لبعضها البعض وتكاملت كلتا الثقافة الروحية والمادية وساهمت هذه وتلك في التقدم الإنساني للحي، تزوجت أخواتي الأربع وتم كامل حفل الزفاف في منازل (العمران) أسرة قصيمية وقورة محترمة رفيعة المستوى كذهب السنابل ومساكب الورد لو اتسع المجال لكتبت عن هذه الأسرة مسلسلا رمضانيا كاملا وليس فقط إشارة عابرة، ما إن كان يصل خبر عقد قران إحدى أخواتي إلى سمع عم عبدالله العمران أو عبدالعزيز أو عم إبراهيم حتى يتصدوا إلى الالتزام بكامل مراسيم الفرح، لم يكونوا جيراناً لنا بل عائلة ممتدة، ومن هذا الحي انطلق كثيرون كالشهب في سماء النجاح، كانت معظم منازل الحي شيدت على يد المعلم (عيد قزاز) شيدت من مواد بسيطة صماء المعالم تنفتح فيها أجزاء للنور (المنور) وكأن الحجر يبتهل إلى ضوء السماء من فتحات تتناغم في ما بينها كسلم موسيقي ينظم إيقاعات الأدعية مع الابتهالات، كانت مباني بسيطة في الخطوط والحجوم والواقع الطقوسي الديني الذي يصل العابد بالمعبود عبر الاستقامة في التعبير بأبسط الوسائل والطرق، كانت رائحة الخشب المعتق تنطلق من بين حجارة البيوت، والأبواب يطفح سطحها بالمسامير الصدئة مُشكلة رسوماً تبدو كالرموز والتمائم الحجازية، ومرت الأيام كحصان مجنون يجري في برية لا أفق لها، اختفى الحي في هدميات عشوائية واختفت معه أماكن الذكريات التي كنا نزورها من حين لآخر كحاج يبحث عن يقين بأن ما حدث له من قبل كان حقيقة وهو يحاول أن يقترب من تلك اللحظات الرائعة فإذا بها تنفر مفزوعة كوعل شيطاني، من المحزن فعلاً أن تتأقلم، أن تعتاد الوضع، أن تكف عن التفكير والتذكر، أن تكف عن محاوله الإمساك بتلاليب الذكريات، أن تنسى وتستكين للنسيان، تنسى فيصبح كل شيء بدون طعم، ليس لأنك حزين ولكن لأن كل شيء فعلا ليس له طعم!!. * كاتب سعودي [email protected]