أين هي الحياة التي أمضيناها في العيش؟ لا أدري إن كان قائل هذه الجملة، وأية جملة، فان جوخ أم غيره، لكن ما هو مؤكد أن العيش يختلف عن الحياة، الثانية فضاء مفتوح للجميع، فالناس يولدون متساوين، لكنهم في الواقع يتطورون ليصبحوا مختلفين، والاختلاف الحقيقي يظهر جليا، عندما يحجز أحدهم مكاناً متميزاً، في نفوس الآخرين، ويتحول إلى واحه خضراء تراها في أفق الطريق، كنا شبيبة نعيش في «مكة» نعيش الحب الحقيقي قبل انتشار موضة «الفلانتاين» التي حولت الحب لحدث تجاري، كان «حوش» المدرسة مكان التجمع، حيث «للفسحة» مكانة خاصة عند جيلنا، الذي لم يكن قد سرقته شاشات «الموبايل»، كنا عندما نرغب في أخذ صورة جماعية، نذهب لمحل التصوير في «الغزة» «أستديو الشرق» صورة تذكارية بالأبيض والأسود، عاشت في الذاكرة لعقود طويلة، ويصبح العثور عليها لاحقاً بهجة لن يعرف طعمها من عرف «السلفي» أو اعتاد على حفظ الصور على «هارد ديسك»، يعود إليه بسهولة، في أي وقت، عشنا معاً في شوارع من فقر، وشوارع من تراب، لا أحذية تكفي، ولا دخل يفي بغرض الفرح، ولكن كنا فرحين، كان ثمة بهجة للعتمة، كانت سهراتنا أسفل البيوت، وأحاديثنا، لا تعكرها فضائيات، ولا يشوش عليها موجز لآخر الأخبار، كانت المصابيح خافتة، لكنها كانت أكثر ضياء من «النيونيات» المعلقة في شوارع اليوم، كنا ننام لنصحو مع الفراشات التي تلونها الحركة حول الضوء، فالقيظ في «مكة» ابن الحر لا يفرق من ابن من، ولا يتريث عندما يمر بطبقة اجتماعية، ويشتد عند طبقة أخرى، فالكل متساوون أمام الشمس، والهواء لا يستثني أحداً، كان هاجس النجاح وصوت الأمل يذيبان خشونة الخبز، وصعوبة العيش، وتدخل القدر، منا من ذهب لمصر، وآخرون لأمريكا وكندا وأوروبا وحتى أستراليا والهند، ولكن حبل المحبة السري لم ينقطع، أو هو فعلا لا ينقطع، شريط غير مرئي، لكنه الأقوى، قصير، نحيف، لكنه امتد بيننا إلى كل المدن، والمطارات، رغم التعب والعقود المتقلبة، والمواجع المتقلبة، وعدنا، أصبح منا الطبيب والمهندس ورجل الأمن والمحامي والتاجر ورجل الأعمال، وتقلد منا البعض حقائب وزارية، وآخرون وكلاء وزارات وعمداء ومديرو جامعات، وتسربت الأيام، مضت سريعة، تسربت من بين الأصابع، أصبحت الأيام ملكية خاصة، لكل سبته وأحده وإثنينه وخميسه وجمعته، والجهات أصبحت خمس، والأرض تدور بقرار من الأقوى، إلا أحدنا، اختلق شيئاً مختلفاً، الاختلاق قد يكون فكرة، أو اختراعا، أو نظرية، وقد يكون واحة ثقافية يجتمع فيها الأصدقاء، وهذا ما فعله «عبدالرحمن محمود صباغ» لم يقطع الحبل السري بينه وبين زملائه كما فعل كثيرون، احتفظ بيوم «الثلاثاء» لنا، خصص هذا اليوم كنورس يرسم لونه الأبيض في سماء حياتنا، استمر يتحمل عبء الابتسامة، ولمده تزيد على «عشرين عاماً» في عالم جعله البعض يحترف البكاء، ظل مجلسه ينساب كجدول ضوء في بحيرة أيامنا، واستمر المجلس لأن لديه عشقاً بالإنسان والفكر، ومد عروق التواصل بين الزملاء، على مدى كل هذه السنوات ظل «الوجيه» ينثر علينا ورداً بكراً، أزهر مجلسه بطقوس راقية مميزة، ضحكة من «الوجيه» تجعلك تنزع شماغك وعقالك وتسترخي وكأن الزمان بسمة حفيد، نعود إلى ماكنا عليه، دون مساحيق وأقنعة، في كل جلسة يلتقط تجربة ملقحة بفكرة، يعتقل كلمة، يستنطق جملة، ويجعلها مكان نقاش وحوار، نضحك، نبكي، حكايات تنهمر أحياناً، تبقي كلاً منا في خزانة الذاكرة الحية، دائماً حضوره ساطع، وكلامه صادق، نستمع لبعضنا بشغف العاشقين، أتحدث عن مجلسه اليوم بتوهج القمر، ففي مجلسه ينبت العشب وتخضوضر الأيام، واصل ضحكتك «يا وجيه» يا صديقنا جميعنا.. نحن الذين لم نجرؤ أن نكون مثلك أبدا!! *كاتب سعودي [email protected]