أصدق أنواع الكتابة تلك التي تترجم المعاناة التي يمر بها الإنسان، والكتابة عن المعاناة هي شكل من أشكال مقاومتها، وهي تختلف من شخص إلى آخر، وأشد أنواع المعاناة والألم تقييد الحرية بالسجن سواء كان سجنا فكريا أو ذلك الوصف الذي يطلق على القضبان الحديدية التي تمنع من يقع داخل محيطها من الانطلاق إلى حيز مكاني أبعد من ذلك السور. ويعد أدب السجون من أصدق أنواع الأدب وأقدمها، هذا الأدب الذي يكتب في شكل شعري أو نثري أيضا، وقد خلد التراث العربي نصوصا عديدة منه نذكر منها: قصيدة الحطيئة بعد سجن عمر بن الخطاب له، والروميات التي نظمها أبو فراس الحمداني في أسر الروم. وهذا الأدب يكتبه العائدون من الجحيم في مقابر الأحياء، وهو بقدر تصويره للعذاب خلف قضبان الظلام إلا أنه يعد أدبا نفسيا بالدرجة الأولى؛ ذلك لأنه يتعمق في سبر أغوار السجين ونفسيته وعلاقته بمن حوله في الداخل والخارج حتى الجمادات تصبح أرواحا ولها قيمتها التي يبني عليها السجين تعامله معها، مع ملاحظة أن هذه العلاقة في الغالب هي علاقة عداء وليست علاقة ألفة تفضي إلى الحب. ويختلف المكتوب عن أدب السجون في الأدب المعاصر عن الأدب القديم في أن الشكل الفني اتخذ مسارين: مسارل فنيا يظهر في النثر المتمثل في الرواية والسيرة الذاتية، وآخر يظهر في الشعر، ويغلب النثر اليوم على الشعر، وقد كتب في هذا المسار أدباء كثر مثل: عبدالرحمن منيف وأيمن العتوم وأحمد المرزوقي وغيرهم، وقد عمد بعض الكتاب إلى تقمص تلك الشخصية (السجين) من خلال رواية تجارب المقربين لهم، فيما كان للمرأة نصيب في هذه المشاركة الأليمة في كتابة التجربة الحقيقة التي مرت بها؛ فكتبت نوال السعداوي «مذكراتي في سجن النساء» وهي تجربة لم تطل بعكس ما حدث مع هبة الدباغ في عملها الموسوم ب«5 دقائق وحسب: 9 سنوات في سجون سورية» وهذه الأعمال هي على سبيل الذكر لا الحصر وإلا فالقائمة تطول، وقد حرصت تلك الأعمال على رصد وتوثيق ذلك الزمن في ذلك المكان بأحداثه وشخوصه وملابساته وصدماته المتوقعة وغير المتوقعة داخل ذلك العالم المعتم، لذلك وتحقيقا لهذا الهدف نجد كتاب هذا النوع يعبرون بالدرجة الأولى عن الذات وتحولاتها، فإذا كان الأدباء ممن لهم باع طويل مع الكتابة كتبوا عن هذه المعاناة كما كتبوا عن غيرها؛ فإن هنالك أسماء ظهرت في هذا النوع من الكتابة ممن ليس لهم ممارسة أدبية سابقة ولم يكن لهم بعدها أعمال تالية؛ لكن ألم التجربة جعلهم ينخرطون في محاولة التداوي بالكتابة، وإن لم يكونوا من أرباب الأدب، وربما كان الوعي بأهمية الكتابة ودورها في العلاج أمرا مستقرا لدى السجانين؛ ما حدا بهم إلى منع استخدام الأوراق والأقلام داخل تلك المقابر، ففيها حياة أخرى لا يراد للسجين أن يعيشها، وهي بوابة الشفاء وفي حرمانه منها عذاب آخر. ولأن هذه الكتابة هي كتابة عن عالم مجهول؛ فإن مقياس الحقيقة فيها يكمن في تكرار تلك الصور ومشاهدتها في أعمال مختلفة، وقد ظهر ذلك جليا في أعمال عدة تتشابه في حجم الألم المكتوب وأشكال العذاب؛ وبرغم التشابه الكبير بين تجارب هؤلاء الكتاب وتكرار الأحداث ذاتها خاصة التشابه الذي يقع بين كتاب عاشوا تجربة السجن الواحد، ولا أقصد بذلك فقط الزمن ولكن أقصد ذات المكان في أزمنة متفاوتة؛ فإن التفاوت يبقى جليا فكل كاتب منهم ينقل التجربة الذاتية من خلال عدسته الخاصة بلغته الخاصة؛ لذلك فمن لم يستطع الكتابة عن نفسه وافتقد القدرة ترك لكاتب مقرب رواية ما حدث له، وهذا يخلق تفاوتا آخر بين تلك التجارب يتمثل في اللغة الأدبية المختلفة؛ التي تمتاز عند بعض الكتاب بغلبة النص البلاغي الرصين على العمل الأدبي؛ الأمر الذي يكشف من طابع اللغة عن الانتماءات الطائفية التي قذفت بأصحابها إلى السجون ونوع الصراعات الذي أذكى روح الفتنة في الخارج، كما أن هذا الفرق الطائفي يستمر في السجون بين المعذبين؛ سواء بإذكاء السلطة لهذا الفارق أو بسبب تلك القناعات المترسخة بين تلك الطوائف بحسب عقائدها؛ ليصبح هذا الزج المتناقض بين الطوائف المختلطة والجمع بينهم في سرداب واحد أحد أساليب التعذيب المتبعة؛ لكن الانتصار الحقيقي يبقى للروح الإنسانية المحبة للتسامح خاصة مع تلك الظروف القاسية التي تمر على الجميع مهما اختلفت مستويات التعامل. ومن الجوانب التي يشترك فيها كتاب أدب السجون التركيز على كشف الفساد الأخلاقي الذي تحتمه في الغالب الحاجة المادية؛ بنوعيها الجسدي والمالي، مما يلجئ الكثير ممن يقبعون تحت نير هذه الظروف للتخلي عن مبادئهم مقابل المادة التي ستصبح وسيلة أخرى يدفعها للسجان من جديد للحصول على بعض احتياجاته أو التواصل مع أهله؛ إذ إن أشد أنواع العذاب في السجن هو النسيان؛ فالسجين قد يبقى خلف القضبان سنين عديدة دون أن يعرف التهمة الموجهة إليه أو يبدأ التحقيق معه، وفي بعض الأحيان يكتشف السجين التهمة الموجهة إليه من خلال السمات المشتركة بينه وبين المساجين معه في نفس العنبر؛ والنسيان يولد بالتالي الانتظار الممل والسكون وهما من أسباب الموت والقتل والعذاب؛ لذلك يعمد المساجين إلى الحركة من خلال العمل والتعلم لقتل هذا الانتظار. ويبقى الدافع وراء الكتابة محرضا كافيا لاختلاف سماتها وموضوعاتها؛ لذلك فقراءة جملة من الأعمال في سياق واحد سيكشف بلا شك عن جوانب مشتركة عامة وأخرى مختلفة يحددها الجانب الذاتي المميز لشخصية عن أخرى. * كاتبة سعودية