ما زلت أتذكر كل يوم تسطع فيه الشمس على جسد هذا الرجل النائم أمامي كثور صرخة أمي في وجهي: تجاوزت الثلاثين ولم تتزوجي بعد، علام ترفضينه؟ يا ماما قال ابن عمه إنه مريض! يتدخل خالي بعد أن وضع فنجان القهوة المتسخ بدبس التمر، لعلق بقايا التمر من أصابعه وهز رأسه كما طالب أمام لجنة امتحان يحاول أن يتذكر ما حفظه من كتابه دون فهم: يا هدى الموضوع بسيط، إي نعم أنه رجل مريض لكنه مرض نفسي لا تخافي هذا المرض تهدئه الأدوية والمسكنات، ليس أعرج ولا أعمى، ثم انظري للجانب الإيجابي ستتزوجين من رجل مريض بيد أنه رجل يملك ثروة لقد ورث من أبيه مبالغ تجعلك أنت وأبناءك في نعيم دائم، ما الفائدة لو تزوجت من رجل سليم وفقير هل ستحصلين على السعادة. يا خال... قاطعني بمكر.. كان أبوك رجلا سليما ماذا أذاق أمك إلا المر والقهر، فكري أن هذا أمره بيدك أنت لن تكوني مجرد زوجة، بل ممرضة تتحكم في زوجها، ماذا استفدنا من الصحة، أي نعيم هذا الذي نعيشه؟ آه ليتني امرأة لما تزوجت غير بدر! هاهو البدر بجانبي ولا أرى منه أي سمة، يا الله كم نحن نعبث بالأسماء عندما نطلقها على آخرين لا يستحقون معانيها! وفجأة تحرك بطني، إنه شهري التاسع، أتمنى أن ألد بدرا يراه الجميع كذلك لا أمه فقط.. خرجت.. كانت أم زوجي تتأمل الأغصان والعصافير، كانوا يسمونها أم العصافير نظرا لعطفها عليهم، كانوا يقولون خلف ظهرها هي امرأة ثرية لكننا لا نراها تتصدق كثيرا إلا على العصافير! لماذا البخل! علمتني هذه الحادثة بعدما صرت من عائلة أم العصافير أنه في كل أمر يقوم به الإنسان شيئان كحبة الفول لا ينفصلان الحسنة والسيئة، كانت صدقة خالتي مع العصافير من هذه الأعمال التي لا تتجزأ مهما حاولنا يختلط حسنها بسيئتها. جلست مقابلة لها، كنت أدرك منذ اليوم الثاني الذي أخبرت فيه خالتي بأنني حبلى نظراتها نحو ابني، نظرات أعجز عن تفسيرها حينا وأفسرها أحيانا أخرى، أتخيل إمبرياليتها نحو ابني القادم. لا أنسى ما حييت ذلك الحلم «كنت أتصبب من العرق في كل اتجاه، كان شعري أشعث وعندما التفت لأرى ابني وجدتهم أخذوه بعيدا، خالتي وبدر هما من أخذاه» كان حلما مزعجا على أي حال، جعلني أفكر ربما أرادوا أن ألد وسيتخلصون مني. ربما أن تأويل المنام هو: الطلاق. كنت مضطرة للابتسام في وجه خالتي، تفكر قليلاً لو تدري بما أفكر به وأنا أبتسم لا أصابها شيء من الجنون.. أخذ جسدي يرتعش بقوة خارجا عن إرادتي بدأت أحس بما وصفته لي أمي سابقا الطلق صرخت: أمي! استيقظت وقد طوقني الأهل، أمي كانت على رأسي، تمسح بحنو ودفء شعري. الحمد لله على سلامتك يا بنتي ومبارك ما جبتِ. الحمد لله، وينه؟ في الحضانة وخالتك وزوجتك ما طلعوا من هناك ما صدقوا جاهم الولد.. شارك الحديث خالي وكالعادة كان فمه مشغولا بأكل صحن الشوكولاته ولعق أصابعه وبدأ يثرثر: بعذرهم! من يلوموهم هذا ابنهم! إلا وش كنتوا ناوين تسمونه؟ لم أجب ليس لكرهي منذ صغري الإجابة على أسئلة خالي إلا لأنني لم أفكر بالاسم مطلقا، لم أختر انجاب طفل فقد فرض علي ومنعت الأسبوع الثاني بأن أستخدم أي موانع حمل، لا يهم الاسم، فإنا كما تعلمون أحمل عقدة الأسماء! مررت الأيام سريعة كالريح، وما لاحظته أنا وخالتي أن بدر لم تدم فرحته طويلا بهذا الولد، كان يكرهه، ولا يريده جوار أمه ولاحظت أن حالته النفسية بدأت تتدهور، لم يفرح به مطلقا ولم تكن الأبوة من أحلامه! كانت الفرحة متشاركة بيني وبين خالتي وبين جارة خالتي أم فوزي التي أصبحت زياراتها لنا يومية بسبب هذا الصبي، الذي كانت تقول إنه «أكل روحي». كانت تصر على سؤالي لتحرجني في كل مرة تسألني هذا السؤال كنت أغضب ظنا مني أنها تريد أن تجدد جراحي لكنني لا أدرك أنها كانت تسأل هذا السؤال ثم تنسى في المرة القادمة أنها قد سألته مسبقا؛ لأن إجاباتي كانت متنوعة وغير دقيقة هي بالتالي تنساها وجاء اليوم وجددت سؤالها: وش أخبار أبوك؟ قبل أن أجيب على سؤالها كان صوت الخادمة الفلبينية قويا لدرجة صم أذني عن كل شيء كانت تصرخ: لاااااا.... مر طيف الحلم الذي رأيته قبل أكثر من سنة أمام عيني، لم أستطع أن أتقدم أو أتأخر تخشبت ككرسي.. نزلت الخادمة من الدرج وبين يديها طفلي، أدركت من بعيد أنه مات، وأن أباه قاتله. * قاصة سعودية