من ينقذ الصغيرة؟ من خفوت الوهج في عينيها؟ قصتها ليست حكاية ليل تودع بها أم أبنائها قبل النوم...! بين مرض يأكل جسدها، ونسيان أهل.. إنها "أمل "البنت التي نازعت ارتباك جسدها بالمرض، التي ما استقام لها صباها كالصبايا، ولا مست جبينها يد أهلها بحنو.. إنها الفرائس عندما تقع يأكثر آكلوها! أنا أمل الصبية، أمل التي يحكى أني بلا أمل، والله أكبر أملي.. يحكون أني ولدت ككل البنات صرخت في ميلادي، وصرخت من جوعي وصرخت من احلامي ككل الصغار، وانتبهت على تعويذات أمي وصوتها الناعس.! كانت أمي حين تجدل شعري تقول لي: اني أجمل من كل الجميلات، وأن حظي طائر أخضر، يلوذ بخصلات شعري، وأتخيل هل يرف بي حظي ويطير لدنيا أجمل من هذه.. كنت لا أظن أن ثمة حضنا أجمل من بيتنا ولا يد تسرح شعري كيد أمي! ولي أب.. نعم لي أب، أب ليس كالآباء على الأقل عندي، كنت أهرع له حين يدخل، واتمنى ألا يكتفي بأن يضمني لصدره، فكرت أكثر من مرة أن أمحى من جسدي واستقر في جسده، ولو سألت عني أمي يجيب في قلبي وبين أهداب عيني.! ليس ثمة أجمل من دنيا مضت..؟! ولي مرض عشته، وكيف لا يمرض الصغار؟! مرضت ككل الناس! تعبت تلك الليلة.. أنفاسي تتسابق للاختباء في رئتي، لا زفير واضح لا شهيق ينبئ عن حياة كاملة، بنصف روح دخلت المستشفى. فيما بعد.. قالوا لي الأطباء أنك جئت محمولة على كف والدك، ركض المناوب نحوك ودخلتي في غيبوبة. أتذكر غيابي كنت في دوامة زرقاء وأصوات مياه حولي، وأشياء تمر ولا أدريها، كنت أبكي في دوامتي، دوامة مستديرة لا ركن أحتمي به ولا طائر اخضر ينتزعني، ولا جسد الوالد يخبئني! وغبت في دوامتي الزرقاء لأيام.. وأصحو بعد شهر مثقلة بهموم الزرقة، وبهم الغياب غير المحسوب، كيف لمثلي أن تترك جسد أبيها، وطائر تمسحه أمها على رأسها كل صباح؟! وأجد من حولي وجوها لا أعرفها أطباء وممرضات، وسقف غرفة لا تعرفني، روائح المستشفى تكاد تخنقني هنا وعيت أني في مكان آخر! قال لي الطبيب بشكل أكثر حناناً من أي طبيب آخر: حمدلله على سلامتك يا جميلة! رددت بلا اهتمام: "الله يسلمك "، شكراً، وزدت: أين والدي، أمي؟ أي وجه يصافح عودتي! وجوه أنكرها.. لم أتوقع أنا أصحو بإحساس فقد أحد! سألتهم بإلحاح: هل تخبرون والدي، هل تتصلون بأمي، هل.. وهل؟ صحت بهم بعد أيام من الإلحاح: هل ماتوا فجعاً علي؟ صرت لا أتكلم إلا بأسئلة، عندما أدخلت الممرضة أكلي، قلت لها: وهل ترين أني جائعة؟! ولا أجد جواباً.. آه ما أصعب السؤال، لكن يبدو أن الجواب أصعب. بعد أيام أخرى حضر من أظنه مسؤولاً في المستشفى، قبل رأسي بحنو بالغ، وروى لي حكاية عن اسمي قال فيما أذكر: أن اسمي أجمل الأسماء وأنه لو رزق بابنة سيكون اسمها أمل لتكون عيونها مثل عيوني، وشعرها مثل شعري، وصوتها كصوتي، وزاد في حديثه: أني مثل يمامة بيضاء قلبها طاهر، وأبيض كريشها، وأنه لو استطاع لجعل هذه الغرفة أرجوحة حبائلها في الغيم. قلت باختصار بالغ: شكراً، أين أهلي؟ هل ماتوا؟ ورد علي: إنهم يا حبيبتي، لا يجيبون على هواتفهم، وأبلغنا جهات أعلى عن حالتك وستنقلين لدار رعاية لا تستطيعي البقاء هنا طويلاً، أنت بخير ولا معنى لوجودك معنا! وهو بحنانه البالغ لم يستطع أن يلجم دمعي، كيف لهم أن يتركوني أن ينزعوا من شجرتهم، وردة يانعة، أنا "أملهم "، كما قالوا! بعد خروجي من المستشفى فهمت أني مريضة بمرض مزمن تلقفوني في دار الرعاية على أن أعود للمستشفى كل أسبوع لغسيل الكلية، وسأنتظر دوري لزراعة بديلة، خالي صار يطل علي ويبكي عند خروجه طويلاً،وأنا صرت أقول له في كل مرة: هم هجروني يا خال، هم دفنوا آمالهم، هم قسوا، لكني أنا "أمل " و"وفاء "أيضاً، سأنشد للطائر الأخضر في صدري، وسأختبئ في جسد الأرض.. وانتظر الجنة!