في مثل هذه الأيام قبل 8 أعوام، وتحديدا في 15 فبراير 2010، خسرت المملكة العربية السعودية مؤرخا فذا من مؤرخيها الذين أمضوا جل حياتهم منشغلين بالتأريخ والتراث والشعر الشعبي والتأليف والكتابة الصحفية والبحث في الأنساب وتحقيق الكتب التراثية والجغرافية، ناهيك عن الاستزادة المعرفية في مختلف حقول المعرفة، فحقّ له أن يُسمى «حمد الجاسر الحجاز» كناية عن علو كعبه ومقامه في الأبحاث التاريخية والجغرافية والتراثية الخاصة بالحجاز، كما هو الحال بالنسبة للعلامة الشيخ حمد الجاسر في ما خص تاريخ وتراث وجغرافية نجد والجزيرة العربية. ففي ذلك اليوم انتقل إلى جوار ربه، بعد معاناة طويلة من مرض السرطان، موسوعة الحجاز وقلعتها التاريخية ومعجمها الجغرافي ومرصد بقاعها المؤرخ والأديب والنسابة متعدد الثقافات والمواهب الشيخ العلامة عاتق البلادي، رحل الرجل عن دنيانا كما عاش فيها بعيدا عن ضجيج الإعلام وصخبه. وعن وصيته قبل وفاته ذكر أبناؤه (طالع صحيفة المدينة 3/3/1431) أن الراحل لم يوصِ سوى بالتعجيل بدفنه بعد الصلاة عليه في المسجد الحرام، مضيفين أنه رفض السفر إلى الخارج للعلاج خشية أن يلفظ روحه هناك فيتأخر دفنه والصلاة عليه في مكة. اسمه الكامل عاتق بن غيث بن زوير بن زائر البلادي. ولد ببادية مكةالمكرمة بالقرب من محافظة خليص في 18 يناير 1934، وتلقى تعليمه الأولي في كتاتيب قريته وتعرف في مجلس والده على الكثير من الحكايات الشعبية والنوادر والطرائف والقصائد والمرويات الشعبية فنشأ محبا لها. بعد وفاة والده، وهو لم يتعد سن العاشرة قرر أن يرحل صوب مكة طلبا للعلم في مدارسها النظامية وسعيا في الوقت نفسه للدراسة على يد عدد من علماء الحرم المكي. وبالفعل خرج من قريته (خليص) وهو مجرد راعٍ بدوي أمي لا يملك سوى كسائه الذي يرتديه، هاربا من واقعه المعيشي المتخلف ومن سجنه الثقافي الضيق. دعونا نقرأ ما كتبته صحيفة الوطن السعودية (3/3/1431) عن ذلك المنعطف المصيري المهم في حياة البلادي «انتقل إلى مكةالمكرمة والتحق بالمدرسة الليلية الأولى في التيسير وبعد 3 سنوات انتقل إلى المدرسة السعدية خلف القشلة. كان يدرس ليلا ويعمل نهارا حيث عمل في أشغال الحجر والطين والتلييس نحو سنتين». قال في حوار صحفي لم ينشر «كنا نصلي المغرب أحيانا في الحرم المكي ومن ثم نركض للمسجد للدراسة، ومن ثم نصلي العشاء في مسجد المدرسة ونمشي من هناك إلى برحة الغزاوي، وكان أخي الأكبر رحمه الله يرعاني ويوجهني، وكان لي صديق في سني اسمه سعد الأحمدي اقترح عليّ أن نذهب للمدرسة النهارية، حيث كانوا يتخرجون من سنة سادسة في ذلك الوقت وأعمارهم 11 سنة، والقبول كان في الخامسة، وإذا تخرج دخل الابتدائي ولو تخرج من الابتدائي أصبح مدرساً، ومن ثم ذهبتُ للديرة في العطلة واستطعت أن أدبر بعض القريشات «النقود» التي تكفي لمدة سنة كاملة، إضافة إلى العمل في مواسم مكة وخاصة الحج، واستطعنا تدبير مبالغ ومصاريف الدراسة الابتدائية حتى يسر الله لنا وانتهينا منها». وهكذا «التحق بالمعهد العلمي السعودي سنة 1368ه، وكان موقعه في سوق الليل تحت قصر الصفا الآن من الجهة الشمالية، ولم يكن موجودا في ذلك الزمان ثانوية غيره سوى مدرسة تحضير البعثات فدرس بها». تقول سيرته الذاتية المنشورة إنه التحق بعد ذلك بالجيش السعودي، فدرس في مدرسة المشاة بالطائف التي تخرج منها برتبة وكيل ضابط (وكيل رقيب) في عام 1956، وإنه بتلك الصفة العسكرية تم ضمه إلى اللواء السعودي ال11 الذي أرسل إلى الأردن لتعزيز قوة الجيش الأردني أثناء العدوان الثلاثي على السويس. وتبدو نجابة وألمعية البلادي جلية منذ سنوات شبابه المبكرة بدليل أنه انتهز فرصة وجوده في الأردن لمدة عامين للحصول على 3 دورات عسكرية في الجيش الأردني، إضافة إلى حصوله على دبلوم الصحافة من معهد دار عمّان العالي، وهو ما جعله يدخل تاريخ بلاده كأول سعودي يحصل على دبلوم في الصحافة. واصل البلادي عمله بالجيش السعودي بعد عودته إلى بلاده من الأردن متنقلا من مكان إلى آخر. وحينما أحيل إلى التقاعد في عام 1977 كان قد وصل إلى رتبة «مقدم»، وكان قد أتقن الإنجليزية. في أعقاب تقاعده اتجه إلى العمل الثقافي والصحفي مستغلا ما اكتسبه في هذا الحقل من دراسته في دار عمان العالي. فعمل بادئ ذي بدء مراسلا صحفيا لبعض الصحف السعودية، قبل أن يكتب المقال في عدد من صحف الحجاز مثل صوت الحجاز والبلاد وحراء وأم القرى وعكاظ والندوة وغيرها، علاوة على كتابة المقالات والبحوث في المجلات الشهرية والأسبوعية الرصينة مثل المنهل والعرب. لاحقا أسس لنفسه بحي ساحة إسلام في مكة (المعروف عند المكيين بحي الساحة) «دار مكة للنشر والتوزيع» التي تخصصت في نشر وتوزيع مؤلفاته. هذا العمل الثقافي الدؤوب، الذي أثمر مئات المقالات وأكثر من 40 كتابا قيما، حقق له شهرة في الأوساط الثقافية، سرعان ما ترجمت بحصوله على عضوية أشهر الأندية الأدبية السعودية، مثل نادي مكة الأدبي، ونادي جدة الأدبي، ونادي الطائف الأدبي. كما أن رحلاته من العراق شمالا إلى اليمن جنوبا، التي سعى من ورائها التحقق من الطرق والأودية والسهول والمضارب، ثم رحلته الطويلة التي بدأت من مكة وانتهت بها مرورا بكل من عمّان ودمشق وبيروت واللاذقية وحلب وحماة وحمص وبغداد والبصرة والكويت والدمام والرياض، وأخيرا مؤلفاته الجغرافية العديدة عن الجزيرة العربية ومكةالمكرمةوالمدينةالمنورة، أكسبته عضوية «الجمعية الجغرافية السعودية». كان البلادي من أوائل المؤرخين والمحققين الذي نذروا أنفسهم لنقد وتصويب الأخطاء التي ظهرت في العديد من المؤلفات القديمة، من تلك التي راحت تؤخذ كمسلمات مع مرور الزمن. وقد خصص لهذا كتابا سماه «محراث التراث.. نقد وإيضاح لعدد من الكتب التراثية»، ونشره في عام 2006. عن هذا الكتاب قال مؤلفه: «كنت أقرأ في كتب سلفنا وكنت أجد بين الفينة والأخرى، بين ثنايا هذه الكتب، أخطاء إما من عمل الناسخ، أو ما أبهم على المؤلف الذي غالبا لم ير كل ما كتب عنه إنما ينقل عمن سبقه، فتكررت الأخطاء حتى صارت تؤخذ وكأنها حقائق مسلم بها. ومنذ مدة عدت إلى هذه الكتب، أقرأ وأؤشر على ما أراه، فلما وجدتُ الكم كثيرا عزمت -بعد استخارة الله- على جمعه في كتاب، لعل الباحثين يجدون فيه ما يساعدهم على بعث الحقائق، بعيدة عما تورث من تلك الأخطاء». ومن الكتب المعروفة التي تناولها البلادي بالنقد والتصويب: الأصنام للكلبي، نوادر المخطوطات لعبدالسلام هارون، العققة والبررة لابن المثنى، أسماء جبال تهامة وسكانها لعبدالسلام هارون، البلدان لليعقوبي، الخراج وصناعة الكتابة لقدامة بن جعفر، صورة الأرض لابن حوقل، كتاب أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم للمقدسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للإدريسي، آثار البلاد وأخبار العباد للقزويني، كتاب الروض المعطار في خبر الأقطار للحميري. عدا عن كتاب «محراث التراث» ألف البلادي ألف جملة من الكتب والمعاجم، لعل أهمها: معجم معالم الحجاز (10 أجزاء استغرق إعدادها 18 عاما)، معجم قبائل الحجاز (3 أجزاء)، معجم المعالم الجغرافية في السيرة النبوية، معجم الكلمات الأعجمية والغربية في التاريخ الإسلامي، معجم القبائل العربية، الأدب الشعبي في الحجاز، نسب حرب، معالم مكة التاريخية والأثرية، الرحلة النجدية، طرائف وأمثال شعبية، بين مكة وحضرموت، بين مكة واليمن، أخلاق البدو، خيبر ذات الحصون والعيون والنخيل، أخبار الأمم المبادة في القرآن الكريم، رسائل ومسائل في الأنساب والتاريخ والجغرافية، هديل الحمام في تاريخ البلد الحرام (4 مجلدات)، ألحان وأشجان (ديوان شعري)، مذكرات (3 أجزاء)، هبة الودود في نسب العرادات ذوي حمود. أما أقرب الكتب السابقة إلى قلب الرجل فهو كتاب «معجم قبائل الحجاز» الذي أخذ منه وقتا طويلا، على اعتبار أنه كتاب موسوعي يتتبع بطون القبائل العربية التي سكنت الحجاز منذ فجر التاريخ تتبعا تنازليا من أكبر القبائل إلى أصغرها، ناهيك عن أن المؤلف قام شخصيا بزيارة أماكن وجود تلك القبائل وكتب على لسان رجالاتها. منبر ثقافي أضاء «ساحة إسلام» لنحو 17 عاماً وعلى غرار إثنينية عبدالمقصور كان للبلادي «إثنينيته» أيضا، وقد تطرق الباحث التاريخي السعودي بدر اللحياني إليها وإلى تاريخ وظروف نشأتها في مقال له بصحيفة المدينة (17/3/1431) فقال إنها بدأت في شهر ذي القعدة من عام 1414 الموافق لعام 1993 في حي ساحة إسلام بمكة، واستمرت تعقد بحضور لفيف من أهل العلم والمعرفة من الداخل والخارج كمنبر ثقافي مضيء إلى ما قبل عامين من مرض صاحبها، مضيفا: «كان شيخنا -يرحمه الله- ينتظرنا في داره كل مساء اثنين ويتفقد الغياب، ويدعو لهم خاصة الملازمين لجلساته، ثم يسألنا عن الأخبار، ويقول لنا أنا هنا منقطع للقراءة ولا أهتم كثيرا بالأحداث. وكنا نحمل له أخبارا متنوعة عن المجتمع وبعض المناخات السياسية الدولية ويعلّق عليها من واقع خبرته ويضفي عليها عبقا تاريخيا أشبه (بهوامش) يرسمها على ما ننقله له، ويثبت شخصيته التاريخية بكل قوة خاصة ما يحتفظ به من أخبار المذياع منذ 50 عاما أو أكثر عندما كان هو ذاته متابعا بحكم عمله». قلنا إن من ضمن مؤلفات البلادي كتاب «طرائف وأمثال شعبية» الذي طبعت منه طبعتان في عامي 1975 و1976. وقد تطرق الكاتب صلاح الزامل إلى هذا المؤلف القيم الرشيق في عمود له بصحيفة الرياض (4/3/1431) فأخبرنا أن المؤلف قام بجمع محتوى الكتاب من خلال ما عاشه ورآه وسمعه عن قرب، وأن فكرته طرأت عليه عندما كان ينشر مقالاته في مجلة المنهل عن الأمثال؛ إذ رأى أنه من المفيد جمعها بين دفتي كتاب، وأنه من الأكثر فائدة ألا يقتصر المحتوى على الأمثال الشعبية الدارجة في منطقة الحجاز، وإنما أيضا التراث القصصي والحكواتي والنكت والمواقف الطريقة والمضحكة وكل ما تختزنه ذاكرته من هذه الأشياء منذ سنوات طفولته وصباه وشبابه، خصوصا أن المؤلف -كما سبق أن ذكرنا- نشأ في بادية مكةالمكرمة ابنا لصاحب مجلس كان يفد إليه في كل ليلة رجال الحي للاستماع إلى القصص والحكايات والطرائف والأمثال والأشعار الشعبية، ناهيك عن أن البلادي اختلط في سنوات دراسته في مكة، ثم في مرحلة دراسته العسكرية بالطائف، ثم خلال خدمته العسكرية في مناطق سعودية عديدة (من تبوك وحائل شمالاً، إلى قرى جازان جنوبا، ومنها إلى الرياض شرقاً، ومكةالمكرمةوالطائف غربا) مع الكثير من أبناء المناطق السعودية الأخرى فاستمع منهم إلى المزيد من الحكايات والطرائف والنوادر الخاصة بمناطقهم. وعن دوافع إصدار مثل هذا الكتاب كتب الزامل على لسان البلادي ما مفاده أن الدافع الأول هو إخراج صورة اجتماعية واضحة لأبناء هذه الجزيرة كما رآها وسمعها المؤلف، والدافع الثاني هو إيراد النصوص في الكتاب بلهجة أهلها زيادة في الإيضاح وأمانة في النقل كي «يعلم من يأتي بعدنا كيف كان شعبنا». عبر له سائل ذات مرة عن خشيته من أن يؤدي الاهتمام بالأنساب وإعداد المؤلفات حولها إلى نشر التعصب والتفرقة العنصرية، فكانت إجابته «بالنسبة لعلم الأنساب يعد فناً من فنون العلم، تزينه الحقيقة وتحري الصدق، ويشينه التعصب، فكلكم لآدم وآدم من تراب. فتركه أورثنا هذه المعمعة التي أصبح كثير من الخائضين فيها يهرفون بما لا يعرفون». وسأله سائل آخر عن موقع قريته «خليص» من فؤاده بعد أن هجرها إلى مكةالمكرمة، فكانت إجابته «بلاد الإسلام إطار وجداني، وبلاد العرب دمي وكياني، والحجاز سويداء قلبي، وليس خليص ببعيد عن هذا كله». حجرات منزله تضيق بمكتبته تقديرا لمسيرته العلمية الوضاءة وإنجازاته المشهودة في الحقول المشار إليه آنفا، فقد تم تكريم عاتق البلادي من قبل «إثنينية» عبدالمقصود خوجة، وكرمه مؤتمر الأدباء السعوديين بميدالية، ونال جائزة أمين مدني للبحث في تاريخ الجزيرة العربية، وحاز على شهادة الدكتوراه الفخرية من جامعة الحضارة الإسلامية المفتوحة ببيروت، وتم تكريمه على هامش معرض الكتاب بالرياض عام 2009. كما قامت أمانة محافظة جدة في عام 2004 بإطلاق اسمه على أحد شوارع مدينة جدة. وصفه أبناؤه بالأب الذي مزج ما بين الصرامة والعدل والحنان والعطف في تربيتهم (أنجب ابنه الأكبر غيث وقد توفي في حياته عن 45 عاما، ثم أنجب من الأبناء سعد وحسين ومسلط ومحمد، ومن البنات ليلى وفاطمة ومرزوقة وأروى وعائشة وهاجر وهند ونورة)، وحرص على تعليمهم أفضل تعليم، ووجههم أفضل توجيه، وغرس فيهم قيم الصدق والأمانة والاستقامة والاصطبار وطاعة الله. أما الذين عرفوه عن كثب فقد أجمعوا على أن الراحل تميز بالشمولية والصبر والجلد والانضباط في العمل والضبط المنهجي الشديد المعتمد على الرؤية المكانية البصرية وتوثيق اللفظ. كما تميز بنبل الأخلاق والشهامة والتواضع والبشاشة والحصافة المهنية ومساعدة صغار الباحثين وإرشادهم. وتوقف هؤلاء طويلا عند عصاميته الفذة وعفة لسانه ونظافة كفه، ناهيك عن عزة نفسه التي تجسدت في رفضه التملق واستجداء دور النشر لطباعة كتبه وتوزيعها، حيث تحول بنفسه إلى وراق يصرف على طباعة كتبه من جيبه الخاص ويوصلها للجميع. كتب معتوق الشريف في صحيفة عكاظ (3/3/1431) واصفا مكتبة البلادي حينما زارها لأول مرة في عام 2009 فقال: «وقفت مذهولا أمام مكتبته التي لم تسع حجرات منزله المتواضع لعددها. فمنذ أن دخلت من بوابة منزله الخارجية، وأنا أشاهد الكتب في كل مكان على رفوف اشتكت مما حملته، كما هو حال تلك السيارة الرابضة إلى جوار المنزل -حيث وصفها ب(البعير)- الذي قطع مسافات من الأميال ناقلا البلادي بين سهل وجبل وواد وقرية. هكذا شاهدت الراحل لأول مرة، لكن ما أدهشني فعلا أنه لا يرتاح في نومه إلا بجوار بنات أفكاره التي وضعها بين دفتي المجلات والكتب المتناثرة هنا وهناك، وقد قادني منظرها إلى سؤاله: ما مصير هذه الكتب بعد الرحيل؟ ليجيبني قائلا: (أوصيت بالتبرع بها لمكتبة الحرم المكي الشريف)». أما عمر بن فيصل آل زيد فقد كتب في موقع إلكتروني قائلا إن البلادي «خدم التأريخ بالتدوين لحاضره والبحث في ماضيه وترك المستقبل لمن سيخلفه»، قبل أن يأسف لأن تكريم الرجل لئن حدث في محافل كثيرة، فإنه جاء «على استحياء ووجل لا يتواءم مع إنتاجه ومكانته وكفاحه». * أستاذ العلاقات الدولية مملكة البحرين