النموذج الأول: صور بعض سجناء وسجّاني «أبو غريب»: مجمل صور «أبو غريب» غير مزدوجة بالأفكار، حيث ركّزت على فكرة رئيسية واضحة ومحددة: إهانة وترهيب وتحطيم السجين (ومن يواليه) إلى أقصى حد. كما حرصت الصور على إظهار طرفي الموضوع (المسيطِر/ المسيطَر عليه)، هي أيضا حرصت على إبراز الطرفين في أوضاع محددة بدقة تعكس واقع وحال كل منهما. الصور ثابتة، موضوعاتها جامدة لا تتحرك، إلا أن الأوضاع والزوايا التي التقطت بها منحتها الحياة وأكسبتها تأثير الصور المتحركة. تمثّل ذلك في صورة سجين عارٍ من ملابسه تماماً يقف مذعوراً أمام جندي أمريكي وكلبه المفترس، أو صورة جنود أمريكيين يجبرون مساجين عراة على تراكب بعضهم بعضا، أو صورة سجان (أو سجانة) يظهر وهو يجر معتقلاً من عنقه، وهكذا. كما أن التباين في ألوان ملابس كل طرف منهما، أو حتى في لون الجلد (في حالة العريّ) في بعض الصور عمل على وضوح فكرة السيطرة بتفاصيلها وقرّب الصورة من الحقيقة التي تمثلها. استندت صور أبو غريب لإيصال رسالتها على ثنائية «الرعب/العنف». هذه الثنائية استخدمت كوسيلة إهانة وتخويف للطرف الأضعف (السجين)، وكرسالة تعكس قوة وسيطرة وسلطة السجّان، وربما أداة متعة له، تماماً كأفلام هوليود. وهذا يقودنا إلى التذكير بأن «الصورة» ثقافة بصرية أمريكية بامتياز، حيث إن الولاياتالمتحدةالأمريكية هي المنتج والمستهلك الأكبر ل(الصورة) عبر مواقعها الإلكترونية وأفلامها ومسلسلاتها وبرامجها التلفزيونية التي تنتجها وتستهلكها بكثافة وتصدرها للعالم أيضا. كما تجدر الإشارة إلى أن الصور التي نشرت عن ما حصل في سجن أبو غريب تناقض تماماً ثقافة الديموقراطية التي تدعو لها الولاياتالمتحدةالأمريكية في العراق وفي غير العراق لسبب بسيط جداً وهو أنه أريد لها (أي الصور) أن تخدم وتكرّس وسائل ثقافة الهيمنة الأمريكية المتمثلة في (القوة – والعنف – والسلطة)، ولفهم ذلك جيداً ما علينا سوى إعادة مشاهدة تلك الصور ومقارنتها بصور أفلام العنف والحرب الأمريكية. إن استخدام الصورة كوسيلة لإيصال رسالة ذات هدف محدد يوجب اللجوء إلى الأسس التي تحكم ذلك، والصور التي أتحدث عنها هنا صور منتجة من قبل أفرد مؤسسة متخصصة يعملون لحساب جهات أو مؤسسات سياسية / عسكرية واستخباراتية ( البنتاغون وال سي أي ايه). وعليه، فإن هذه الصور لابد أن تتوفر فيها بعض الشروط والمواصفات التي تتيح لمستخدميها فرصا مدروسة لتحقيق أهدافهم، وهذا لا يتم عشوائيا، بل يجعل المستخدمين - أيا كانوا - في موقف المتبع لقواعد الاستخدام وأساليب العرض المناسبة للموقف والرسالة، مكاناً وحدثاً ومشاهدين. والسؤال هنا: أليس من الممكن بعد كل ما سبق أن يكون نشر صور «أبو غريب» عملاً أبعد بكثير من مجرد كونه تسريبا نتج عن صحوة ضمير لدى جندي ما؟. النموذج الثاني: مقاطع الذبح العائدة لتنظيم داعش: حدث أن الإعلام ضخ بشكل مهول سيلاً من مقاطع الذبح (فيديوهات) العائدة لتنظيم داعش، وصاحب كل مقطع مصور رسالة موجهة إلى النظام الأمريكي ومن يدور في فلكه: الزهو باستعراض القوة، وإرهاب الأعداء. لقد كان الهدف السريع المباشر من ذلك هو إحداث التأثير الصادم والعنيف لتحقيق اجتياح نفسي قبل العسكري، وتحقيق التدجين والهيمنة المطلوبين. إن الصورة في تلك المقاطع أخذت بعداً جديداً يزيد على الصورة الثابتة، فهي صورة حية تتكلم وتتحرك، وهذا أعطاها فعلاً تأثيرياً إضافياً. كما أن مقاطع داعش لم تحفل بكرنفال ألوان يشتت الانتباه، ولا تفاصيل فنية تدعو إلى الجدل، بل على العكس من ذلك تماماً، هناك ثلاثة «مكونات» فقط وهي شديدة الدلالة: ملثّم بزيّه الأسود، وضحية يركع بلباسه البرتقالي، وسكين. سخرية وسخط عميقان تصل بالحدث (والمشاهد) إلى لحظة الصدمة القصوى: الذبح. في تباين صارخ مع لون السواد الداعشي وسكّينه اللامعة، يكون اللون البرتقالي طازجاً ولاذعاً كرسالة كثيفة غير قابلة في ماهيتها للشك؛ لتصل المشاهد بصور لا تزال مخزونة في ذاكرته. ليس عبثاً أن تُلبس داعش ضحاياها المذبوحين باللون البرتقالي، فذلك يحيل ذاكرة المشاهد فوراً إلى ما تم إلباسه لمعتقلي سجن غوانتنامو سيء الذكر، وهذه رسالة خاصة للإدارة الأمريكية تحديداً. إن التقنية العالية التي بدت فيها الصورة في تلك المقاطع تزيل أي لبس في موضوعها، مؤكدة رسالة التصميم في الفعل، بما يتضمنه من كراهية الآخر (العدو) حدّ الانتقام بشراسة وقسوة. لم يهدف تنظيم داعش إحداث إبهار بصري، وإنما أراد إيصال رسالة عنيفة وصادمة في آن، عبر استخدام قدرات إعلامية وتقنية هائلة. رسالة تنظيم داعش: نحن هنا، لدينا المعرفة وفي موقع السلطة. في كل تلك المقاطع تبدو الواقعة واحدة والحدث متشابها؛ لكن الصورة/ الحدث في لحظة التقاطها وما تم بثه منها تغفل لحظات سبقتها وأخرى لحقتها مما يقطع بتشوه المعرفة والحقيقة وربما زيفها؛ فالصورة لا تنقل الحقائق وإنما الرسالة/الحدث ووجهة نظر من يقف خلفها، فالأيديولوجيا حددت شكل وتفاصيل التقاط المقاطع المصورة وطريقة تقديمها. إذاً هي صورة موجهة، تقوم على استغلال وتوظيف أحادي للصراع التاريخي والعقائدي. وبقدر ما كان الهدف من بث تلك المقاطع زرع قناعات فكرية وسياسية وعسكرية سريعة، بالطبع تبقى الغاية النهائية من ذلك كله: التأكيد على امتلاك السلطة والمعرفة. في المحصّلة: اكتسبت الصورة الحديثة إمكانية عميقة في التأثير، وامتلكت كذلك قدرة كبيرة على الإقناع. فهي - ساعة بثّها على وجه التحديد – من أكثر العناصر الإعلامية استفزازاً للمتلقي واستحواذاً عليه على حدٍ سواء. هذه الإمكانية والقدرة في التأثير والهيمنة والتوجيه ليس فقط بسبب تكوين الصورة التقني وما تتشبع به من ألوان وتزدان به من صفاء وجودة عرض وتمنحه من «متعة» عند المتعاطفين، وإنما يرجع ذلك إلى ما تحمله «الصورة» من «بلاغة» في الموضوع، وما تحمله من إمكانية في «صدم» المتلقي بفورية وسرعة بثّها، وكثافة عرضها، وتعاقبها الخاطف، حيث لا يجد الذهن زمناً كافياً للتمعّن والمراجعة والتفكير، ومن هنا تحدث السطوة، ومن هنا أيضا صار بالإمكان التصريح بأنه ليس ثمة أبلغ من «الصورة». من المسلّم به أن وسائل الإعلام والاتصال الحديثة أتاحت عبر إمكاناتها المتقدمة فرصاً غير مسبوقة للتواصل القيمي والثقافي العابر للحدود. وبالرغم من وجاهة نظرية «ديموقراطية الاتصال» القائمة على ما أتاحته هذه الوسائل للناس من حرية في طرح المعلومات ونشرها على نطاق عريض والاطلاع عليها، يرى إيناسيو رامونه (الصورة وطغيان الاتصال، 2009) أن الوضع الراهن تحول إلى شكلٍ من «الرقابة الديموقراطية»، وهذا النوع من الرقابة ليست كالرقابة الأوتوقراطية (الاستبدادية) القائمة على حجب المعلومات أو الحذف منها أو الاجتزاء، بل هي تقوم على الإغراق في نشر المعلومات ومراكمتها والغزارة في كمية الأخبار ونشرها، بشكل يزيد كثيراً عن حد الكفاية ويبلغ درجة عالية من الإشباع والإسراف حدَّ الشطط. وضمن كثافة الإغراق هذه، أصبحت «الصورة» في مقدمة الأدوات المستخدمة؛ فبها تُملى المواقف، وتعمّق الأفكار، وتوجه الاختيارات، وعبرها يتم تكوين ذهنيات جماعية، وبناء علاقات، وامتلاك سلطة تُغيّر وجهة حركة المجتمعات. في المقابل لنظرية «ديموقراطية الاتصال»، يشير مايكل سكدسن في كتابه (علم اجتماع الأخبار، 2010) إلى أن الإعلام يعمد إلى «بناء العالم» عبر الانتقاء وتسليط الضوء.. والتعتيم، ما ينشر انطباعاً بأنه يقدم العالم «الحقيقي» للجمهور المستهدف، ويتحول هذا العالم في النهاية إلى حقيقي حقاً. وهذا ما ذهبت إليه تهامة الجندي أيضا في كتابها (الإعلام العربي- قلق الهوية وحوار الثقافات) من أن وسائل الإعلام المعاصر تضع الإنسان تحت ضغط شديد ومكثّف بهدف إعادة صياغته وعياً وسلوكاً وفق نموذج معد مسبقاً. هذه الوسائل تفعل ذلك عبر اعتماد آلية الانتقاء (ثنائية الاختيار والاستبعاد)، حيث يتم صرف الأذهان نحو تلق مقرر مسبقاً. الإعلام هنا لا يعرض «صورة» على المشاهد لكي يفكر ويقرر، وإنما يعرض حدثاً أو حالة وخلالها يسوّق الطريقة التي يجب أن يفكر فيها والخيار الذي يلزم سلوكه. عملية الانتقاء هذه تحمل في طياتها بالضرورة انحيازاً ما، وتقود إلى فكرة «التأطير»، والأطر في وسائل الإعلام – بحسب الجندي – هي «مبادئ الانتقاء، والتشديد والعرض، والتي تتألف من النظريات الضمنية الصغيرة حول ما يكون، وما يحدث، وما يهم». إذاً، لم تعد الفضائيات مجرد وسيلة لنشر الخبر أو إتاحة الترفيه، ولا الإنترنت أصبح مجرد عالم افتراضي ميسّراً للتواصل بين الأمم والثقافات، حيث بات لكل منهما أبعاد أكثر تعقيداً مما يظنه الكثيرون. استحالا وحشاً يطاردك هنا أو هناك: في التلفزيون والحاسوب والهاتف وغيرها من الأجهزة الإلكترونية التي تحاصرك في كل مكان. نعم، بها أمسى العالم قرية كبيرة واحدة، وإنما أيضا عالم يحمل الكثير من المتناقضات. من جهة، مكّن الإنسان من الانفتاح على «العالم»، والاقتراب من تكوين رؤية إنسانية واسعة ومشتركة تتجاوز الهوية الضيقة. ومن جهة أخرى أتاح لرواد وأنصار الفكر الإثني والعرقي والقومي والمذهبي نشر وتفعيل برامجهم «الشرسة» عبر ما يتيحه من إمكانية تواصل سريع وفعّال قليل التكلفة. إنه عالم يسبقك ببراعة بالغة بالخدمات الجليلة والإنجازات القيّمة والعروض المدهشة، و«كلما شاهدت أكثر، عرفت أكثر واقتربت أكثر». وفي الوقت ذاته، عالم يحاصرك بإحكام شديد بالمعارك الطاحنة والنزاعات المتكاثرة والكراهية المتبادلة، ووسط غبار هذه المعارك الإعلامية وضبابية المشهد يتم اقتياد عشرات الآلاف من البشر، و«كلما شاهدوا أكثر، تباعدوا أكثر». إنه العالم الذي يطاردك ب «الصورة» المباشرة، ويعيد بثها وهو يعرف ما لها من سطوة يصعب الفكاك منها. العالم الذي يسعى حثيثاً بحرصٍ وخبث لتكوين صور ذهنية محددة بدقة لدى عشرات ملايين المشاهدين والمتابعين، و«كلما شاهدوا أكثر، ارتبكوا أكثر». وهنا تأتي مشروعية طرح السؤال في اتجاهي النشر والتلقي على حدٍ سواء: أي صورة نريد نشرها أو تلقيها؟ لم تعد هناك «صورة بريئة». ف«الصورة» في الإعلام الراهن لم تعد مجرد إطار أو لقطة عابرة أو مشهدٍ للترفيه أو التوثيق أو ملء الفراغ، وإنما أصبحت موضوعاً متكاملاً يتم إعداده وبناؤه وبثّه وفق قواعد وقوانين محددة، وضمن رمزية لها بلاغتها ودلالاتها؛ لإيصال رسالة وإقامة علاقة وتحقيق هدف. وخلف هذا المشهد كله، يبرز صراع عنيف بين ما تهدف إليه وسائل الإعلام والقائمين عليه من تأطير وتوجيه من ناحية، وحرية الجمهور المتلقي وحقه في الاختيار والتفسير والتأويل من ناحية أخرى. هنا، وللوهلة الأولى، يبدو وكأن الأمر انتهى لصالح الإعلام وأدواته الكاسحة، فهو يقدم «صورة» واجبة التصديق ويجتهد في اختراع أدواته التي تمكنه من ذلك، معتمداً على خصائص السرعة والفورية وكثافة الانتشار والتكرار، وهي خصائص تمنح الصورة وموضوعها قوة وتأثيراً إضافيين لإحداث الصدمة ثم تعميقها، والاقناع بها. حُسِم الأمر ولا مكان للتفكير أو التأويل. مهلاً، فطبيعة البشر متقلبة ومتشككة، وربما من السهل أن نستميلهم ب«صورة» أو بمشهد إلى أمر من الأمور، لكن من الصعب أن نبقي على إيمانهم به طويلاً. أضف إلى ذلك أن الصورة مهما كانت بليغة وصادمة بحد ذاتها، في واقع الأمر تبقى مادة أولية يقع عبء تفسيرها على المتلقي الذي يركن إلى فعل ذلك وفق مخزونه الثقافي، بسيطاً كان أم تراكمياً. إن كل صورة في الأساس هي مشروع مضمر تنتج الدلالة عن طريق التأويل، والمشاهد سيبقى على الدوام حراً في داخله ليتعامل بحيادية نسبية في تفسير «الصورة» وتأويلها، بحيث يضعها في نسق صوري خاص به معتمداً على مخزونه الثقافي والأيديولوجي، ضمن سياق المرجعية الكاملة للحدث الذي تعبّر عنه الصورة. وفي هذا السياق، يصبح الإعلام بنخبه وصانعيه معرّضين لفقد احتكارهم للتأويل، وحرصاً على استمرارية التأويل كثيراً ما يبادرون إلى تنحية الصورة إلى الخلف مؤقتاً، ليتقدم الخطاب الإعلامي. بقي أن نشير إلى ما ذكره الغذامي في كتابه (الثقافة التليفزيونية، ص88) من أنه «من شأن الصور أن تلاحق صاحبها معه وضده في آن، تصنعه في موقف وتحطمه في موقف آخر في تبادل خطير ينتهي بنهاية درامية دائماً». أليس هذا ما حدث مع سجّاني معتقل أبو غريب، وكذلك مع ذبّاحي تنظيم داعش؟! * قاص وأكاديمي