إعلام مركّز يستخدمه تنظيم "داعش" الإرهابي في تغطية جرائمه كلّها، ولعلّ التفنّن في إيصال رسائل الرّعب الى من يعتبرهم خصومه هو أحد الأسباب التي تشجّع بعض الشباب المتهوّر على الانجراف في هذه الدّعاية. ولا تبدو وسائل الإعلام التقليدية ولا حتّى المواقع الإلكترونيّة ذي مهارة كافية لمواجهة نشر الرّعب واقتناص المقاتلين من أنحاء العالم كلّه، بل هي تنجرف في نشر الصور والمشاهد والشرائط المصوّرة التي يوزّعها التنظيم بمختلف الوسائل والطرق والأشكال ليطال أكبر شريحة من الناس، لاعبا على وتر الخوف من جهة ومحاولة اجتذاب الإعجاب من جهة ثانية. هذا الواقع المستجدّ منذ حزيران من العام الفائت أي بعد أن محا "داعش" جزءا من الحدود العراقيّة-السورية، مرشّح للتمدد زمنيا بفعل الوقت الذي ستتطلّبه محاربة "داعش" وهو تنظيم لا يمكن القضاء عليه دفعة واحدة. لذا يترتّب على الصحافيين والإعلاميين والمدوّنين والناشطين عبر وسائل التواصل الاجتماعية كما الحكومات وضع استراتيجيّة إعلامية متكاملة تبدأ في مرحلتها الأولى بتحديد خطوط التعامل مع المواد التي يوزّعها هذا التنظيم عن جرائمه. أفكار عدّة يمكن بلورتها، عرض جزء منها نقاش نظّمه "مركز "كارنيغي" للشرق الأوسط" في بيروت وشارك فيه عدد من المتخصصين في مجال الإعلام والسياسة: أيمن مهنا، جيم موير ولينا الخطيب، ولعلّ أبرز الأفكار التي يمكن أن نفيد منها كصحافيين تتعلّق بالنقاط الآتية: عدم الانجرار الى لعبة الترويج التلقائي للأشرطة والمقابلات التي تبثّها "داعش" بل اعتماد الانتقائية في عرض المشاهد والعبارات التي ترد فيها. توفير خلفيّة للمشاهد أو للقارئ عن هذه الفظاعات وتزويده بتحاليل لها عوض عرضها فحسب، فتحليل هذه الموادّ هو جزء من عملنا الصّحافي. نقاش حقيقي تثيره أشرطة "قطع الرؤوس" في وكالة رويترز البريطانيّة على سبيل المثال، لذا يشرف "المحرّر الأخلاقي" على كيفية بثّ مقاطع من هذه "الفيديوهات" وهي مقاطع لا تظهر الفظاعة التي تتعمّدها "داعش". هذا الاقتطاع لا ينظر إليه المسؤولون في "رويترز" على أنّه انتقاص من قيمة الخبر، لأنه ببساطة خبر موزّع على الوكالات ووسائل الإعلام المرئي والمسموع والإلكتروني، ويعتبر هؤلاء أنه لا يوجد "سبق صحافيّ" في أشرطة مماثلة إذ لا " أهمية لأن تكون المؤسسة الإعلامية تسبق سواها في زفّ خبر قتل مواطن الى أسرته ووطنه. ولعلّ اختطاف عدد من الجنود اللبنانيين من قبل "داعش" و"جبهة النصرة" منذ شهر آب (2014) وكيفيّة تعامل وسائل الإعلام اللبنانية مع هذا الحدث الوطني المأسوي، هو أحد الأمثلة عن الارتجال الذي يقع فيه الإعلام. أشرطة عدّة نشرتها "داعش" منها مقابلات مع الجنود اللبنانيين، ولقاءات مع أهاليهم، ورسائل مصوّرة توجّهوا فيها الى المؤسسة العسكرية اللبنانية والى الحكومة تضمّنت أحيانا دعوات لتحريك الشارع اللبناني، فضلا عن أفلام قطع رؤؤس وإعدام بالرصاص لأربعة جنود. من الناحية المهنيّة، يعتبر المتخصصون أنّ عرض هذه الأشرطة التي تنتجها "داعش" تمسّ بكرامة الضحايا، ويمكن أن تتسبّب بأعمال عنف من قبل المتضررين وخصوصا الأهل والمناصرين، فضلا عن حملها لرسائل سياسية ومذهبيّة خطرة يتوخاها الإرهابيون. من جهة أخرى، فإنّ عرض هذه الأشرطة ستبرّر لمجموعات عنيفة أخرى هجومات مماثلة في مناطق لبنانية، وهكذا تفيد التغطية الإعلامية غير المدروسة من قبل خبراء في المؤسسة في تغذية أهداف "داعش" ومثيلاتها. يطرح بعض المتخصصين إمكانية التعاون بين الصحافيين والإعلاميين وبين المؤسسات الأمنية من أجل فرز المادّة التي ينبغي بثّها، لكنّ هذا الطرح يصطدم أيضا بكيفية نأي الإعلاميين عن الانغماس في الجوانب المخابراتية لهذه المؤسسات، ما يجعل هذا الخيار سيفا ذي حدّين، لكنّه لا يمنع تنظيم دورات تدريبية مشتركة بين الطرفين تعزّز التعاون بين المؤسسات الإعلامية والأمنية من دون أن ينزلق الإعلام الى الروابط المباشرة مع هذه المؤسسات التي تستخدم الصحافيين أحيانا لأجنداتها الخاصة. يطرح السؤال أيضاعن "الضحايا غير المهمين، وهم ليسوا جنودا أو طيارين أو صحافيين، فكيف يتعامل الإعلام مع هؤلاء؟ وأين هو الحدّ الفاصل في التعاطي مع الأشرطة التي تطالهم؟ المقاربات مختلفة في شأن هؤلاء وفي شأن سواهم، لكنّ الخبراء يعتبرون بأنّ عمليّة التعتيم الإعلامي الكامل هي فكرة سديدة أحيانا، وخصوصا عندما ترغب عائلات الضحايا بذلك، وعندها على الصحافيين الالتزام. فعرض بكاء الأهالي وجزعهم المستفيض مثلا، يحوّل الرهائن الى أشخاص ذي قيمة مضافة بالنسبة الى الخاطفين، وإذا رأت "داعش" كم إن الرهينة ثمينة فمن المرجّح أن تعمد الى قتلها بأبشع الطرق لأسباب رمزية تبرز "أهمية" التنظيم الإرهابي، وهذا ما حدث مع أكثر من رهينة ومنها الطيار الأردني الشهيد معاذ الكساسبة الذي أحرق حيّا، فضلا عن المصريين الأقباط الذين ذبحوا عند شواطئ ليبيا. أمّا إذا رغب الأهالي بالتغطية الإعلامية الواسعة فهنا تقع مشكلة جديدة، إذ لا يمكن للصحافي أو الإعلامي أن يحجب صورة أمّ تناشد الخاطفين إطلاق سراح ولدها، ولا يمكن للصحافي التوجّه لها بالقول: هؤلاء سيقتلون إبنك مهما فعلت! لا يمكن القيام بذلك البتّة. لا شكّ أن الأمر يحتاج الى مدوّنات سلوك كتلك التي بدأت تعتمدها بعض المؤسسات الغربيّة ومنها "رويترز" وال"بي بي سي"، تغطية أعمال الإرهابيين يحتاج الى نقاش أكثر عمقا في وسائل الإعلام في الشرق الأوسط، ف"داعش" هي التي توزّع الأفلام، لكننا نحن الصحافيين والإعلاميين معنيون بكيفية تظهيرها، والمسؤولية تقع أيضا على وسائل الإعلام الاجتماعية وهنا يأتي دور الحكومات في التحكّم والحدّ من نشر موادّ تلهم الإرهابيين أكثر، مع التنبّه الى عدم الانزلاق الى المسّ بحرية الإعلام.