إنه فصل الشتاء في «باريس» تبقى معظم ستائر العمائر مسدلة، تشبه الضمادات على الوجهات المهترئة.. وتنتشر المدافئ المضيئة حول الطاولات المتجاورة في المقاهي ويعرض الباعة الكستناء المشوية على عرباتهم المتحركة.. في إحدى المقاهي جلست وحيدا.. تشرد عيناي في البعيد.. أرحل إلى زمن قديم.. هذا المقهى جمعني يوما بأبي عمرو المفكر المجدد الأستاذ عبدالله أبو السمح.. مرت الأيام ولا تزال صورته تلهج بي أبدا.. لا أعلم ماذا أصنع لذاكرة لا تقدر أن تنساه.. وكيف أنسى أبا عمرو وهو جزء من زماني.. كنت أنتشي بصوته عقب كل مقال أكتبه أفرح كطفل حصل على لعبة جديدة وأحضن السعادة بين ذراعي.. كان ولا يزال عبدالله في القلب أعراسا خضراء.. كان الوقت يمضي للغروب.. لا أشعر بارتياح وقت الغروب.. أشعر أن الغروب هو بقايا اليوم يرحل أشعر أحياناً باكتئاب.. حزن أحياناً لا أدري مصدرهما.. اليوم على الأقل أعرف مصدر حزني.. أفكر في مشكلة وقت الغروب معي وأتذكر رواية رائعة تحت عنوان «بقايا اليوم» لكاتب إنجليزي من أصل ياباني، وقد نالت جائزة إنجليزية مشهورة.. كما صورت فيلماً سينمائياً أتذكره بتفاصيله للممثل الرائع «إنتوني هوبكنز»، ماذا تفيد العودة إلى الماضي، قلتها لنفسي في هذه المدينة التي تبكي عشاقها، وكان أبو عمرو رحمة الله عليه يعشق باريس قبل أن يسافر نحو اتجاه واحد، حيث المراثي المعلقة على أستار الليل.. ومثلما يتجمع النمل على قطعة السكر البني ويغطي سطحها بالكامل أخذ الحنين يزحف في أعماقي، حتى أصبح حالي مثل الذي ينظر في البئر حتى سقط فيها، يقول الكاتب السوري مصطفى خليفة في روايته القوقعة «إن الإنسان لا يموت دفعه واحدة.. كلما مات له قريب أو صديق فإن الجزء الذي كان يحتله هذا الصديق يموت في الإنسان، ومع الأيام وتتابع سلسلة الموت تكثر الأجزاء التي تموت داخلنا.. وتكبر المساحة التي يحتلها الموت»، وأنا أصبحت أحمل مقبرة كبيرة في داخلي تفتح هذه القبور أبوابها عند الغروب ينظر إلى نزلائها يحادثونني، ولقد اتسعت تلك المقبرة في داخلي لتضم زائرا جديدا هو عبدالله أبوالسمح، أصبحت بيتاً يجمع معظم أحبائي عبدالله جفري، محمد صادق دياب وآخرين، آخرهم أبو عمرو، بوفاته أصبحت بيتا يجمع كل أحبائي وأعزائي الذين من ولع اشتياقي إليهم ولد في داخلي رغبة بحفر قبر آخر لي للرقود بينهم، عندها فقط سأرتاح، سأجد الراحة الأبدية التي طالما تقت إليها.. لكم هي قاسية معضلة القدر حين ندرك أن مساحة الموت داخلنا تكبر كلما عشنا أكثر وتمسكنا بالحياة أكثر! حزن يلفني وأنا في ذلك المقهى ذلك النوع من الأحزان الذي يلفنا حين تمر في الذاكرة صورة شخص هو وحده، نتمنى لو أنه لا يزال هنا.. ما زلت غير قادر على محو رقم هاتف أبو عمرو من ذاكرة جوالي.. كنت بحاجة إلى التحدث إليه، حاولت وبعد أن وصلت إلى الرقم الأخير ألغيت المكالمة وبكيت.. كان عبدالله قطعة من التكوين الإنساني الراقي ومات الجمال والكمال والقمر والشمس والتراب والشجر.. يا الله ما أقسى الموت، أبوعمرو كان في عينيه سلام ووداعة وفي يده حنان ورفق وفي صوته حب وصدق وفي كتاباته حزم وتجديد وانفتاح نحو المستقبل، وليت القدر أكرمه بالمكوث قليلاً ليفرح بتحقيق ما كان يطالب به ويقاتل من أجله.. كان أحياناً يكتب بحزن لدرجة السخرية، وبه شجن شريف ويده بيضاء تحسبه مليونيراً من التعفف، زاهد كالرهبان ورقيق كنسمة الصيف يحمل بداخله حب الدنيا كلها لم أضبطه يوماً ساخطاً على أحد، فقد كان كبيراً وعظيماً وحراً شريفا كحجر الصوان صلب، لكن ينفجر في قلبه الماء العذب وتنبت على سطحه الورود.. كنت أكابد الأحزان والحنين في ذلك الغروب مرددا مع «مي منصور» الشتاء طبطب بيده على الأكتاف.. والضلوع في الطل باتت والقلوب من غير لحاف.. بردان يا صوتي اللي اتنبح ينده على الأحباب.. حروفي لما بتندهك بتقول ألحان وورود.. والحب ساكن في القلوب من غير شروط.. بس لقانا للأسف ناقص ومحتاج مليون شروط.. في يوم عزائه وأنا أقبل عمرو معزياً، قال لي كان يحبك يا دكتور، وأنا أقول لكل الناس لكم كنت أحب أبا عمرو.. أحبه كثيراً.. وأفتقده! [email protected]