جلس ساهما على غير عادته المرحة، وعلى عكس ما عرف عن مرحه وابتسامته التي لا تفارق محياه، كأنه مهموم أو يعاني من مشكلة لم يستطع التغلب عليها، قلت له أيها الصديق العزيز نصف المائة خمسون ولن تكون عشرة أو عشرين، فلم هذا السهوم يا عزيزي، كل أمر وله حل بإذن الله، نظر إلي وقال لي: الحمد لله على كل حال، لست مهموما ولكني في حيرة من أمري، فأنا أقرأ وأسمع وأرى التصريحات والتقارير والعناوين عن كم الوظائف التي ستوفرها المشاريع والخطط والهيئات والمؤسسات للشباب والشابات، وأتابع الأخبار عن المؤسسات الحكومية والأهلية التي تدرب الشباب ضمن برامج تأهيلية تمكنهم من تولي مسؤوليات العمل فيها، ومنها البنوك والهيئات وبعض الشركات، وكلها توحي إلى المتلقي بأن ليس هناك أي عقبة أمام الشباب المتخرج من الجامعات في تخصصات مطلوبة لسوق العمل، كالتخصصات المالية والإدارية والهندسية والطبية والفنية المساعدة للطب والهندسة، لكنني وجدت بأن نسبة كبيرة مما نتلقى ليس له وجود على أرض الواقع، فابنتي قبل أن تلتحق بالجامعة حرصت معها على أن تتخصص في مجال يطلبه سوق العمل، وهو الإدارة المالية، ولم تترك منذ أن تخرجت قبل عام كامل بنكا أو شركة أو هيئة إلا تقدمت لها، ولم تفلح محاولاتها في الالتحاق بعدد من الوظائف المطروحة على استحياء في بعض المؤسسات، لأنها تفتقد إلى الخبرة، أما الالتحاق بوظيفة حكومية فذاك ضرب من الخيال وحلم لن يتحقق، لأن ابنتي الكبرى تقدمت قبل حوالى عشر سنوات وسجلت اسمها في موقع وزارة الخدمة المدنية، ولم تحصل على وظيفة في أي جهة حكومية حتى الآن، وقد تقدمت إلى إحدى الإدارات التي طلبت إشغال وظيفة كتابية على المرتبة الخامسة أو السادسة فكانت واحدة من أكثر من ألفي متقدمة لنفس الوظيفة، وكلما أرادت التقدم لوظيفة وجدت أمامها آلاف المتقدمات. ويستطرد صديقنا بأنه يعرف عددا من الأسر التي يقبع أبناؤها وبناتها في البيوت خلف شاشات الكمبيوتر، يتابعون طلباتهم التي تقدموا بها منذ تخرجهم، وكلهم في تخصصات يطلبها سوق العمل، إدارية وفنية وطبية مساعدة، فأي سوق عمل يتحدث عنه المسؤولون عندما يناقشون مشكلات التعليم والتوظيف والبطالة؟ الموضوع برمته يحتاج إلى دراسة واقعيةٍ تأخذ بعين الاعتبار كل المعطيات الحالية، وتخرج بحلول تتغلب فيها على العديد من المعوقات التي تحول دون تخفيض نسبة البطالة بين الشباب والشابات، وتعتني بالخريجين منهم والذين استجابوا في دراستهم الجامعية لمقولة «احتياجات سوق العمل» ويواجهون حزمة من العقبات أثناء بحثهم عن الوظائف، ومنها اشتراط الخبرة التي يمكن حلها بأن تقبل كل المؤسسات نسبة محددة من الخريجين لتدريبهم بمقابل مادي تشجيعي، وتختار الجيد منهم لتوظيفهم، شبابنا أمانة في أعناقنا، وتشغيلهم مسؤولية دولة ومجتمع، وواجب وطني على كل من جنى ثروته من هذه البلاد.