لم تكن مسيرة الدكتور ساعد بن خضر العرابي الحارثي التي دونها في كتاب «رحلة على هامة التحدي»، مجرد قصة كفاح ونجاح، بل كانت أشبه ما تكون بلوحة درامية تتغلغل في عمق المجتمع، راصدة الصراع بين بدائية الحياة وأحلام المستقبل وتطوراته المذهلة. لغة الكتاب الحالمة جسدت خبرة الدكتور ساعد العرابي الإعلامية؛ إذ استطاع أن يسلط الضوء على محطات حياته في (407 صفحات من القطع الكبير) بأسلوب قصصي مبهر ومشوق بدءا من الطائف وقرية المريفق وصولا إلى الولاياتالمتحدةالأمريكية وعمله في وزارة الداخلية؛ إذ وصف ناشر الكتاب (مدارك) الإصدار بالقول: «هو ليس قصة ولا رواية ولا هو سيرة ذاتية مباشرة كما هو المعتاد، إنه سجل وثائقي حقيقي اعتمد أسلوب الحكاية، بلغة بسيطة مباشرة عن سيرة رجل خرج من رحم الأمية والفقر والظلام إلى عوالم شاسعة أخرى، لم تهب له ولم يرثها ولكنها صنيعة يده؛ إذ تتميز شخصية صاحب هذا الكتاب بأنه كان هو لا غير المربي لذاته والنتاج لتربيته، وأن ما تحقق له -بعد الله- كان ضرباً من ضروب المستحيل، فقد أمه عند الولادة، وفقد والده وهو في سن الثانية عشرة من عمره، وعاش في بيئة فقيرة أمية أقصى ما يتطلع له ساكنها أن يكون موظفا ليعيش، إلا أنه كان مختلفا؛ إذ مر بالكثير من التحولات والتحديات في حياته معتمدا فقط على قدراته الفكرية والذهنية للوصول إلى ما وصل إليه.. تجاوز الصعوبات، وحطم العقبات في طريقه نحو الصعود، فكان طالبا وموظفا وصحفيا في آن واحد، وعندما أصبح أستاذا في الجامعة تطلع إلى خارج أسوارها ليس فقط بحثا عن المال والمكانة، وإنما لرغبته أن يكون له دور في الحياة العامة على مستوى الوطن.. فكان له ذلك». طالب الأول الثانوي يقتحم بلاط صاحبة الجلالة بدأت علاقة ساعد العرابي مع الإعلام منذ وقت مبكر؛ إذ كان محبا للأدب وكتابة المقالات وهو في المرحلة المتوسطة، وفي سنته الأولى من المرحلة الثانوية التقى معلما مصريا اهتم بموهبته في الأدب. وتوثقت علاقته بالصحافة بعد أن وصل إلى الرياض شاب تخرج للتو في كلية اللغة العربية في مكةالمكرمة وكان له صلة بالصحافة، وعمل محررا لصفحة الأدب في جريدة الرياض، وعندها حاول ساعد العمل في الصحافة وقام بالتواصل مع رئيس تحرير جريدة الرياض أحمد الهوشان، طالبا وعمل في المحليات، ليعمل بعدها في عدد من المنابر الإعلامية ومنها عكاظ، الجزيرة، فضلا عن الإذاعة والتلفزيون. صور الأمير نايف بن عبدالعزيز وإلى جانبه د. ساعد العرابي الحارثي. هليلة الشلوي تنقذ حياة «الشيطان الصغير» عاش ساعد العرابي ظروفا قاسية منذ يومه الأول في هذه الدنيا؛ إذ فقد أمه (محسنة) بعد ولادته في مدينة الطائف بلحظات، وعندها وقف والده خضر بن عبدالله العرابي الحارثي عاجزا أمام جثمان زوجته ورضيع لم يكمل يومه الأول ولم يتذوق حليب أمه، وقرر بعد آخر حفنة من تراب أهيلت على قبر زوجته، أن يعود مع من تبقى من أسرته «طفلان ومولود جديد» إلى قرية المريفق، التي غادرها قبل سنوات إلى مدينة الطائف بعد أن التحق بالجيش السعودي. كان خضر العرابي يعتقد أن الرضيع سيموت لا محالة في الطريق، وهذا أقسى شعور كان يمر به في رحلة العودة إلى المريفق، إذ يرى أنه من غير الممكن أن يعيش تحت شمس قائظة يومين، هي مسافة الطريق من الطائف إلى قرية المريفق، وهو لم يذق شيئا منذ ولادته. وعندها عاد خضر على جمله وفي جوفه بحر من الأسى، متسائلا كيف يؤمن الغذاء لطفليه، أما الرضيع فكان يعتقد أنه سيقضي في الطريق. واصلت الأسرة المكلومة طريقها وكان الرضيع مع مرور كل دقيقة يقترب من الموت أكثر، وفي اليوم الثالث وصلوا إلى قريتهم المختبئة بين جبال الحجاز، ثم قصد خضر الحارثي وأولاده بيت أخيه الأكبر (دخيل الله)، ودلف إلى المنزل يحمل بين يديه طفلا ميتا إلا من باقي نفس يتردد في جسده. بادرته زوجة أخيه (هليلة الشلوي) بالسؤال: هل لا يزال الطفل حيا؟ فأبلغها أنه لا يزال يتنفس، إلا أنه لم يطعمه شيئا منذ رحل من الطائف. كانت هليلة التي تصغر زوجها بسنوات ليست بالقليلة امرأة من نوع نادر من النساء ذات قامة مهيبة وعقل راجح، فعلى الرغم من أنها لا تقرأ ولا تكتب إلا أنها كانت تحمل رؤى المتعلمين. احتارت هليلة في بداية الأمر كيف تنقذ الرضيع، إذ إنها امرأة عاقر ولا يوجد بها حليب لإرضاعه، لكن فطنتها أرشدتها أن تسارع وتعطيه من حليب المواشي، إلا أنها لم تتمكن من فتح فمه المغلق، فشفتاه كانتا ملتصقتين من شدة الجفاف، فأخذت قليلا من شعر الماعز وغمسته في الحليب وبدأت تقطر في فم الرضيع حتى نجحت في إرضاعه. عاش ساعد في كنف عمه دخيل الله وبرعاية زوجته هليلة بعيدا عن والده الذي تزوج امرأتين وانشغل بتربية طفليه من زوجته المتوفاة، فضلا عن أطفاله من زوجتيه الجديدتين. ولم يشعر ساعد العرابي في طفولته بمرارة الفقد إلا بعد أن ابتعد عن «أمه التي لم تلده» هليلة الشلوي والتي أحسنت تربيته قبل أن تفقده بسبب خلاف أسري بين والده خضر وعمه دخيل الله نتج عنه عودة ساعد إلى والده متجرعا مرارة الفقد مرة أخرى، وكان أكثر ما يفتقده ويحز في نفسه أنه عندما يردد: «يمه» لا يجد جوابا. كان ساعد في طفولته ذكيا عنيدا مشاكسا، حتى أن مجتمعه الصغير كان يطلق عليه لقب «الشيطان الصغير»، وهي صفة تطلق في الأرياف والبادية على الفتية الأذكياء الذين يتصرفون بطريقة لا تتناسب مع سنهم. واستشرفت هليلة الشلوي الحزينة على فراقه نبوغ هذا الفتى في وقت مبكر جعلها تقدم له هدية من نوع آخر، فبعد عودتها من إحدى رحلاتها من الطائف قدمت له قلما على الرغم أنها كانت أمية. لماذا اختلف مع أستاذه في أمريكا؟ تعرض الدكتور ساعد العرابي الحارثي عند دراسته للإعلام في الولاياتالمتحدةالأمريكية إلى صدمة كبيرة كادت تبعده عن الدراسة، إذ كان شابا مفتونا بالمدينة وواقعا في غرام المنجزات الحضارية إلى حد النخاع، إلا أن أستاذه بجامعة أوهايو الأمريكية ومشرفه الأكاديمي كان يحمل فكرا مختلفا عن فكر وقناعات طالبه؛ إذ أوضح الدكتور روبرت مونهان منتج البرامج الشهير في محطة (NBC) في إحدى المحاضرات أن المنتجات الحضارية التي أنتجها الإنسان هي المصدر الأساسي لتعاسته، لافتا إلى أن مصادر السعادة لا تكمن في المال وحده ولا في المكانة الوظيفية العالية، وأن الحصول على ما يسد حاجات الإنسان الأولية من المادة مقترنا بالقناعة والسعادة أفضل من أي شيء. اكتشف الطالب ساعد العرابي أنه وأستاذه يفكران بطريقتين متضادتين، وعندها طلب من الأستاذ التعليق، وبعد أن سمح له قال ساعد: «إن العقل البشري أبدع بما حقق بنقل الإنسان من الحياة البدائية إلى ما نعيشه من حياة مترفة، فتحقق للإنسان كل ما يحتاج له، واختصر الزمن، وسهل لنفسه وغيره سبل الحياة، ولولا الله ثم إبداعات الإنسان وما أنتجته العقول البشرية المبدعة ما كنت معكم هنا في هذا الفصل.. إنها الطائرة التي أوصلتني.. وإنها الرغبة في التعليم.. والرغبة في الإسهام في تطوير مجتمعي». ابتسم الأستاذ، وكان الرد سؤالا: «ما الذي جاء بك إلى هذا البلد؟» ساعد: «للتعلم وتوسيع المدارك والمعرفة» مونهان: «ولماذا كل ذلك؟» ساعد: «لكي أمتلك القدرة العلمية على العطاء والإسهام في بناء المجتمع» مونهان: «هل سيحقق ذلك لك السعادة؟ أم هو الاستمرار في اللهاث في ساحة الحياة؟» ثم استأنف المحاضرة بالحديث عن مجموعات الأميش، وهي مجموعات تقوم فلسفتهم الحياتية على الرفض التام لكل ما له صلة بالحضارة المعاشة، فبدلا من السيارة يستخدمون العربة والحصان، كما أنهم لا يتعاملون مع الكهرباء والهاتف والثلاجة، ويعيشون في مزارعهم التي تزرع بالطرق البدائية المعتمدة على الإنسان والحيوان. وأبدى الأستاذ إعجابه بحياتهم، مؤكدا أنهم يعيشون في قمة السعادة، ثم التفت إلى ساعد الحارثي وقال: «أريد أن تكتب لي بحثا عن الأميش، وتزور قريتهم؛ فهي لا تبعد عن كولومبوس سوى ساعة واحدة بالسيارة.. واسمها كدرون». عندها شعر الطالب ساعد العرابي الحارثي أنه قد تورط في ما لا يعنيه، ولم يجد بدا من تنفيذ ما طلب منه أستاذه، وهو ما تسبب في رحلته إلى قرية الأميش التي ذكرته بقريته «المريفق»، وماضٍ هرب منه منذ زمن. صور د. ساعد العرابي لدى حصوله على الدكتوراه من جامعة أوهايو 1983. بائع البرشومي عاد ساعد العرابي إلى الطائف التي غادرها يوم ولادته، ولكن هذه المرة لمواصلة تعليمه بعد أن أنهى المرحلة الابتدائية، ونظرا لصعوبة الحياة وقلة الموارد المالية واجه العرابي الكثير من التحديات أولها مصاريف السكن والدراسة، لاسيما أن ساعد لم يجد أحدا من أبناء قريته يشاركه في السكن وبالتالي تقل المصاريف عليه، ولكن جارهم الزهراني في القرية وافق على أن يسكن ساعد مع ابنيه وفق شروط محددة وبمقابل إيجار محدد، ومع تأخر المكافآت التي كانت تصرف من الدولة للطالب في ذلك الوقت، لم يجد ساعد بدا من العمل بعد أوقات المدرسة، فطلب من أحد أخواله «سفران» الذي يبيع الخضروات في المواسم أن يعمل معه بائعا للبرشومي، فكان يعمل من صلاة العصر إلى غروب الشمس وكان عائده المادي لا يتجاوز ثلاثة ريالات يوميا. اعتذر عن منصب «وكيل وزارة الداخلية» طامحا بقيادة «الإعلام» لم يستسلم ساعد العرابي الحارثي أمام التحديات التي مرت في رحلته بين الدراسة والصحافة والعمل الحكومي، إذ واصل دراسته حتى تخرج من جامعة الرياض 1976، وفي نفس يوم تخرجه أعلن عن زواجه في الطائف ليعود بعد ذلك معيدا في نفس الجامعة، مبتدئا محطة أخرى يطمح من خلالها لمواصلة دراساته العليا في أمريكا وهو ما تحقق له، إذ نال الماجستير في الإعلام من جامعة ميتشيجن 1980 وحصل على الدكتوراه في نظريات الاتصال ووسائل الإعلام الجماهيري من جامعة أوهايو الأمريكية 1983 وعاد بعدها ساعد العرابي إلى جامعته ليعمل أستاذا في قسم الإعلام بجامعته التي أصبح اسمها جامعة الملك سعود (الرياض سابقا). وفي أعقاب ما يسمى ب«أزمة الخليج»1991 كونت المملكة وفودا من المثقفين والأكاديميين لزيارة دول العالم وشرح موقف المملكة وكان ساعد الحارثي ضمن الوفد الذي ذهب لأمريكا وكندا وأبلى بلاء حسنا، بعدها عمل في فريق استشاري «غير متفرغ» تم تشكيله بتوجيهات الأمير سلطان بن عبدالعزيز. ومن جهة أخرى كان الأمير نايف بن عبدالعزيز رئيسا للمجلس الأعلى للإعلام الذي كان ل«ساعد الحارثي» علاقة به منذ عودته بشهادة الدكتوراه من أمريكا، ومن خلال هذا المجلس نشأت علاقته بالأمير نايف يرحمه الله بعد أن أصبح عضوا كامل العضوية في المجلس الذي يتكون من عدد من الوزراء. وبعدها دخل الدكتور ساعد وزارة الداخلية ولم يكن يتبادر إلى ذهنه يوما أنه سيجد نفسه منتسبا لقطاع له صفة عسكرية. وبعد مضي ما يقارب ثلاث سنوات على بداية الفريق الاستشاري أخبره عضو الفريق الاستشاري أمين عام المجلس الأعلى للإعلام الأستاذ عبدالرحمن العبدان برغبة الأمير نايف تعيينه وكيلا لوزارة الداخلية لشؤون المناطق على المرتبة الخامسة عشرة، لكنه اعتذر. وكان تبريره أن طموحه ليس العمل في الساحة البيروقراطية بعيدا عن معارفه وقدراته، بل إنه كما أفصح في كتابه كان يطمح لقيادة وزارة الإعلام وهو الاعتقاد الذي تحقق بالترشيح ولم يتحقق. بعد ذلك وقع اختيار الأمير نايف عليه ليكون مستشارا له، وكان الأمر محسوما في 1996. ولا يزال الحارثي مستمرا منذ أكثر من 20 عاما في مكتب وزير الداخلية، رأس خلالها الكثير من اللجان وحقق الكثير من الإنجازات.