ربما لم ولن يمر على الخطاب التنويري أزمة أشد من الأزمة التي يعيشها في هذه الأيام؛ فقد وجد نفسه بلا خصوم، والكل يتفق على نفس المطالب التي كان يطالب بها من سنين، بل إنها أصبحت واقعًا أقره السياسي، ولأن التيار التنويري لم يكن متفائلاً فقد صُدِم بهذه التغييرات أكثر من صدمة التيارات الظلامية المتشددة، ولم يكن مستعدًا فوجد السياسي متقدمًا على تفكيره، فدخل في أزمة فقدان هوية ولم يعد لديه خطاب تقدمي، ودخل في حالة احتفالية مستحقة ولكنها طالت، وأصبحت حفلة للتندر بالمتشددين، ولكن السؤال الجوهري: ماذا بعد؟ إن ما يعانيه التيار التنويري اليوم أشد مما يعانيه التيار الظلامي؛ لأنه فقد مقوم التطور الرئيسي أو الديالكتيك الهيغلي (جدل التطور) حين فقد نقيضة الذي كان يساعده على تقدمه والترقي من حيث حوار المتناقضات، وإذا سلمنا بأن التطور كما أفهمه لدى هيغل -جدل الفكرة ونقيضها للوصول للفكرة المطلقة- ولكن بعد أن تلاشى النقيض وأصبح لدينا فكرة واحدة حتى لو كانت صحيحة فإنها يجب أن تلد نقيضها لتتقدم وتترقى، لقد دخل التيار في أزمة تساؤلات وجودية وبدأ يسأل نفسه: من نحن؟ وماذا نريد؟ ونحن موجودون لماذا؟ لعل نقطة ضعف التيار التنويري أنه كان نقيضًا لفكر متشدد سخيف، وقضاياه تدور في محور الحقوق الفردية المحضة، وهذا لا يعني أن التيار التنويري لم يخض معركة تنويرية مفصلية وكان لزامًا عليه أن يخوضها لتحرير الفرد من سلطة أفراد متشددين، ولكنها كانت حرب استنزاف استهلكت قدرات التنويريين وطموحاتهم وهويتهم وخفضت تطلعاتهم للحد الأدنى، وكأنك ترى حربا في عصور الظلام الأوروبية، ولعله من سوء الحظ أن تكون تنويريا في العالم العربي، فأنت كمن يريد أن يقنع رجلاً بدائيًا بركوب الطائرة وهو لم يقتنع بانتعال الحذاء بعد! أصبح السؤال الملح الآن للتنويريين ماذا بعد؟ هل هو الوعي الفكري والمعرفي؟ هل هو الوعي الفلسفي؟ هل لدى التنويريين القدرة على خوض غمار التنوير الفلسفي والمعرفي؟ هل الحديث عن العلمانية والليبرالية وإعادة نشر المفهوم وفلسفته بالشكل الصحيح كما حدث في أروقة الصحافة وهاشتاقات تويتر، نقاش عن العلمانية وشارك به مجموعة من المثقفين والكتاب ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي هل تشكل إرهاصات خطاب تنويري جديد؟ لا أعلم وإن كنت أتنمى ذلك. خطاب التنوير وحاملو رايته يجب أن يعوا أن المجتمع أصبح تقدميا بقيادة القرار السياسي، وأنه فقد أهم وسائل تطويره بعد أن سقط الخطاب الظلامي فلم يعد لدى الخطاب التنويري عنصر النقيض -الهيغلي- الذي يساعده على التطور والتقدم، وعليه فإن البقاء مرهون بتنوير التنويريين ونقد الخطاب من داخله حتى يلحق بالركب.