الذات التي لا ترضى بأن تحتار بأسئلتها وحدها وبمأزقها في الحياة وفي الوجود، وإنما هي محتارة -أيضاً- وعلى نحوٍ أشد بالآخرين إن في دائرة العائلة أو العمل أو المجتمع بصفة عامة؛ محتارة ليس بنظرتهم إليها وحسب، ولكن بما تصنعه -هذه الذات- من افتراضات لتلك النظرة كيف تكون وما هي عليه. تخرج الذاتُ من ردائها وتحل عينا في الآخرين، وبموجب -هذه العين- يتم الحكم والتقييم، والانصياع كذلك. كما لو أن الحال هنا لا يكتفي بعبء واحد بل بمزيدٍ من الأعباء التي لا يصمد أمامها، ويجري التخلخل والانهيار رويدا رويدا في جدل يستنبت المقاومة سوى أنها حل لا يفي ولا يثبت في نزالٍ خاسر تتبدى فيه الذات وحيدة ومنعزلة. بلا حولٍ ولا درع ولا عون يأتي في وقته الملائم. تلك الذات التي تعيش صراعَها الداخلي بشكلٍ دائم، وصراعَها الخارجي بعد ذلك، تعكسها رواية عزيز محمد «الحالة الحرجة للمدعو ك» (دار التنوير - 2017) من خلال مجاز جسد مصاب بسرطان اللوكيميا، حيث هو الموطن الذي يدار فيه وبه عنفُ الأزمة ومشكلة العلاقة، ويتوفر على منطق الرد الشعوري واللاشعوري؛ الجسدي والنفسي والروحي. الرحى التي تدور وتضرس. سلسلة من الردود والارتطامات مدارها الجسد الذي يقوّض مَن يواجهه غير أنه في الوقت نفسه يتقوّض. شاب في منتصف العشرينات من عمره بمؤهل جامعي في تقنيات المعلومات. لم يمضِ عليه أكثر من ثلاث سنوات موظفا في شركة بتروكيماويات بشرق البلاد. يضيق ذرعا بقيد الوظيفة التي يعدها مرضا. يسدل ستارة حديدية لا مرئية ويضعها بينه وبين زملائه في العمل؛ غير قابلة للاختراق لا منهم ولا حتى من رؤسائه. شاب منحسر الطموح ولا تحركه سيرة الناجحين ولا المعايير الاجتماعية للنجاح والتواصلِ ورسم العلاقات البينية الظافرة. مِن خلف جداره الشفاف يراقب من حوله، ويراقب نفسه بانتباه سابر وبسخرية جامحة. ومن برج المراقبة الذي لا يضطلع فقط بالرصد ولا بإعلان القطيعة مع الاندماج والمسايرة، بل نلفيه يمر إلى تاريخه الشخصي والعائلي في لحظته الحاضرة.. والغائرة في الماضي، باستعادات -فلاش باك- تفتح الملفات النفسية القابعة في مرحلة الطفولة أو أول المراهقة.. استعادات، معززة بالتحليل الثاقب، بمثابة دوّامات طاغية تضيء الراهن لا لتقبله ومحاولة عيشه، ولكن لترسيخ صورة من العمل والتعامل بتجذيرها في مجرى الوقائع اليومية، ويحضرني قول شعري لقاسم حداد في «انتماءات» يصادق على وضعيّة البطل ويترجمه تماما: «لستُ منسجما/ ولست مهيأً للانسجام»؛ إعلان صارخ باستمرار النفور وإمضاء القطيعة، واستمداد شواهد من الماضي لتأكيد تلك القطيعة واستدامتها. الإعلان المكتمل منذ زمن في الداخل والمتواري عن ساحة المصارحة المباشرة الغليظة، كان يفتقر إلى الذريعة المتجاوزة للخجل والهشاشة، والانصياع تحت دافع القبول ضمن مسافة محسوبة تثمن الحضور الشخصي دون اجتياحه.. ولا مسوغ كامل العنفوان وبالغ الضرر مثل السرطان؛ يسمح بممارسة الفجاجة والغلظة في إطار من تسامح الآخرين، أيضا، وقبول المرض عذرا يجب فعلة المرء جميعها. وكما يهجم السرطان بشراسة مدمراً الجسد فإن صاحبنا يهجم بعدوانية وانفعال. يضرب بشكل مدوٍّ نسيجَ العلاقة الاجتماعية والآصرة العائلية. ما كان طيَّ الكتمان ومسارة الذات يندفع هادرا إلى السطح بكليته من النزق والرعونة؛ لا يوفر ولا يجامل ولا يقنع بحد: «حان موعدي معك، أيها العالم اللعين - ص 119».. «أميل برأسي على المقعد وأحدق إلى انعكاسي في المرآة الجانبية. ها هو المسخ قد تضخم ليصبح أداة تدمير لنفسه وكل ما حوله - ص 205». إن مجاز الجسد في الرواية «يسمع» ويتردّد صداه في أكثر من مكان؛ عضوي، اجتماعي، عائلي، فكري وفلسفي، إبداعي.. وأحسب أن الجملة الافتتاحية في الكتاب تومئ إلى هذه الامتدادات وتلويناتها القاتمة: «حالما أستيقظ، يراودني الشعورُ بالغثيان - ص 7» وربما تحمل في أطوائها دلالة التقويض غير الناجز، والإشارةَ إلى أن المعادلة غير صفريّة يتذرى معها كل شيء.. حيث كلمة «المراودة» في واحد من وجوهها تحتمل الشدَ والجذب والمداورة على كف يجوز معها الرجحان وعدمه. ما يعني أن ثمة ما يترسّب ويتعذر قلعه أو إزالته أو في الأقل إزاحته. بصمة باقية تفعل فعلها تحت الجلد، تأتي حاصل تجربة وخراجَ عمر، تشرق من لا مكان، تنجم من النسيان؛ كلما تعرت الندبات في عتمة الخرائط وضلال المواقيت. ثمة ما يبقى ويؤشر على ضراوة الكامن وإن من بعيد؛ «الأسى العذب»؛ الماكث رغم غياب الصور وامحاء الوقائع.