يا له من نهار.. الشمس ناصعة تهم بالخروج من مسرح السماء ومناظر ساحرة لا تقاومها العين ولا عدسة الكاميرا.. عناق في الأفق سماء ونهر والغيمات أكاليل أذهب في هذا الصباح لشراء احتياجات شهر «رمضان» من رجل سوري مهاجر لديه حانوت خصصه للمأكولات العربية ولوازم إعدادها في سوق الفلاحين.. جاء إلى هنا منذ سنوات بعيدة وتزوج أخيراً من سيدة سورية كما هو حال معظم المغتربين.. يقدم لي القهوة كلما أذهب لشراء شيء منه يقوم بإعدادها بنفسه.. أحب الطريقة التي يصنع القهوة بها.. يطحن بذرة القهوة طحنا دقيقا جدا ثم يغلي الماء في ركوة نحاسية حلبية ذات مقبض صغير ويضع القهوة فيها ثم يزيلها من على النار مباشرة ويسكب القهوة في الفنجان.. طائر مهاجر مسالم بسيط يعيش عالمه الصغير الخاص.. لديه هوس بالشعر والأدب والرواية.. كان يجلس بهدوئه المعتاد.. ذهبت له بهدية أجمل الهدايا تلك التي تقدم في المناسبات الرمضانية أحضرت له مسبحة وجالون زمزم.. استلمها مني وعانقني ودموع كثيفة تتساقط من عينيه مسح دموعه بظاهر يده اليمنى.. أغمض جفنيه أمسك بأنفه وسحب نفسا عميقا.. تكلم وكأنه يهمس.. نطق بضعف كأن غصة في قلبه قال لي بصوت مكلوم لقد فقدت ابني الوحيد (محمد) في ضربة جوية هدمت منازل حي بكامله، حدث ذلك أثناء زيارة زوجتي لأهلها، والآن زوجتي في الأردن وبعض الأشقاء والأقارب في شتات، بعضهم مع زوجتي وبعضهم رحل لأماكن لا أدري أين هي.. تركته يسترسل في كلامه مبهوتا بواقع الصدمة، تنهد وأكمل جئت إلى هنا وأنا أحمل دمشق معي لأني أحبها.. دمشق الطيبة البعيدة المليئة بالأزهار وشتلات الليمون.. كل الأشياء كانت تغني هناك كانت دمشق الصنوبرة لأغاني الطيور، الحرب جعلت تلك الطيور مصابة بضمور الأجنحة حتى «بردي» مات قبل أن يحفر مجراه، دمشق أصبحت مدينة تأكل سكانها جائعة زاحفة تلوك البشر والشجر أصبحت مدينة لا تحن للعشب.. سافر ابني مع زوجتي رحل إلى دمشق وصلت قدماه ولكن روحه صعدت إلى السماء.. في الليل يهزني الليل كل ليلة كلما غفا جفني اجتاحت عيني صور ومشاهد مفزعة صور تركض خلفي تصيح بلا فم.. أتذكر ابني وكيف كانت زوجتي تسرد علي في الهاتف حكاية موته وهو يضم دميته في صدره ورأسه ينزف دما.. أحلام وصور تعبر الليل تبحث عن عقلي منذ طحنت القذيفة قلب ذلك الطفل، الذي علمته كلماته الأولى وجعلت قلبه يخفق كلما سمع «موطني موطني» ولم يسعفني الزمان أن أكمل.. قتله القاتلون الذين استيقظوا قبل طلوع الشمس.. القاتلون الذين أتوا بكامل زهوهم ليقتلوا طفلا.. أصبحت يا دكتور مثل غيمة فقدت الأمل في أن تكون مطرا، كل ما ادخرته من أحلام مضت إلى مكان واحد هو قبر ابني، الجرح الذي أحمله في قلبي لا يصله النسيان.. تحول بيتي إلى قبر بنافذة وباب وأصبحت دمشق لي كفنا وتابوتا.. أصبح الصقيع أقسى والطرق متاهات أقطعها كأنهار حزينة في الصباح وأنهار جافة في الظهيرة.. انتقل بين سؤال وآخر باحثاً عن إجابة لأعود وأستريح على عتبات منزل كنت أركض إليه أختفي فيه تضيء ضلوعي وأنا أحضن محمدا مثل يوم مشمس.. تلك العتبات التي كنت أجلس عليها وحضني مقعده أصبحت تختنق تحت ركام الذكريات.. صمت لحظة أخذ يتأوه وأضاف يقول «ليس أغلى من الابن إلا الوطن» وأنا فقدت الاثنين أفلت الاثنان كقميص طار أفلت من فكي الملقط وبرودة حبل الغسيل.. كان ينظر إلى البعيد كان هناك طير يحلق في الفضاء قال جملة رنت في أذني كوقع الطبل «حين ألقي نظري يا دكتور على الطيور أتمنى أن أكون أحدهم أحمل جناحين أطير بهما سراً إلى دمشق وأدخل خلسة هناك أتحسس الرمل الذي يقبع فوق قبر ابني وأقبله» قالها كأمنية مكدسة تنطفئ في زمن الغروب.. نظرت إليه نظرة مطولة ومن بعدها أنحيت وجهي جانبا كي لا أترك مجالا للدموع التي بدأت أشعر بها تظهر في عيني.. لقد حاولت ترتيب يومي فبعثرت قلبي.. أخخخخ يا وجع!! هنا أناس ينزفون حزناً على أوطانهم.. وهناك من ينزفون دماً. وعجبي !!