قامت يوم الخميس الماضي بارجة أمريكية في البحر المتوسط باستهداف قاعدة الشعيرات السورية، بأكثر من 50 صاروخاً من طراز توما هوك، رداً على الجريمة التي ارتكبها النظام السوري باستخدام الأسلحة الكيميائية ضد أهالي بلدة خان شيخون بريف إدلب، قبل ذلك بأيام. رد الفعل هذا من قبل إدارة الرئيس دونالد ترمب يحمل في طياته معاني مختلفة.. وستنتج عنه تداعيات قانونية وسياسية واستراتيجية على مستوى حركة السياسة الدولية، وإدارة الصراعات، ربما بعيداً مؤسسات وقيم النظام الدولي، الذي تمثله الأممالمتحدة ويحكم ميثاقها. من أخطر مظاهر قصور نظام الأممالمتحدة، الذي يحول بينه وبين ردع تطور الصراعات الدولية لتقود إلى الإضرار بأمن العالم وسلمه، هو ربط قوة الردع الرئيسة في هذا النظام بإرادة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن، بمنحها حق النقض «الڤيتو»... كأن العدالة الدولية مربوطة بإرادة دولة واحدة تمتلك حق النقض في مجلس الأمن تدفعها مصالحها وأطماعها بأن تجازف بأمن العالم وسلمه! من هنا كان من الصعب صدور قرار ملزم من مجلس الأمن، وفقاً للبند السابع من ميثاق الأممالمتحدة، باتخاذ إجراءات عقابية رادعة ضد النظام السوري. روسيا لم تكن لتسمح بتمرير مثل ذلك القرار الأممي الملزم.. وكما خبرنا من سلوكيات سابقة داخل مجلس الأمن، ربما الصين لن تسمح بذلك، أيضاً. لذا نجد إدارة الرئيس ترمب، تخالف ما كانت قد أعلنته: بإمكانية التعامل مع النظام السوري، بالرغم من جرائمه المتواصلة ضد شعبه. بدايةً: علينا عند تقييم الموقف الأمريكي ألا نخرجه عن سياقه السياسي، الذي يعبر عن مصالح الولاياتالمتحدة القومية. الرئيس ترمب قال: إن ذلك الهجوم الكيماوي الذي تعرضت له مدينة خان شيخون السورية يمثل خطراً على الأمن القومي الأمريكي. أمريكا، إذن: تصرفت وفقاً لما تمليه مصالحها الاستراتيجية القومية الكونية، رغم ما بدا من نزعة انعزالية للإدارة الأمريكية الجديدة. كما أن هذا السلوك الأمريكي، ليس بجديد على سياستها الخارجية. سبق للولايات المتحدة أن تجاوزت إجراءات مجلس الأمن الداخلية وخاضت بداية خمسينات القرن الماضي الحرب الكورية تحت علم الأممالمتحدة! كما أن واشنطن غزت العراق 2003 وفق تفسير لها لقرار سابق من مجلس الأمن، فشلت في إعادة صياغته في قرار جديد يخولها غزو العراق. داخلياً: لا يمكن فهم السلوك الأمريكي خارج ما يتفاعل في واشنطن من لغط حول علاقة إدارة الرئيس ترمب بالكرملين على خلفية الادعاءات بعلاقة موسكو وتدخلها في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، التي جاءت بالرئيس ترمب للبيت الأبيض. من الملاحظ: تواري قضية هذه العلاقة لإدارة الرئيس ترمب بالرئيس بوتن.. وغطت عليها أخبار وتحليلات وتصريحات عن الضربة الصاروخية على سورية، مما قد يساعد على زيادة شعبية الرئيس ترمب.. وتأكيد النظرة إليه كزعيم وطني جاء بإرادة الشعب الأمريكي.. ويسعى جاهداً، كما وعده، باستعادة القوة والهيبة للولايات المتحدة. كما أن واشنطن، بهذه الضربة الصاروخية، تستعيد استراتيجياً وعيها ومكانتها الكونية، كقوة رئيسية في النظام الدولي، تمتد مصالحها ومحددات أمنها القومي لخارج نطاق حدودها ومجالها الإقليمي في العالم الجديد. الولاياتالمتحدة لا يمكن أن تسمح بأن يتمادى توسع خصمها الكوني الرئيس (روسيا) بما يمكنه الاقتراب من مناطق نفوذها التقليدية، مهما كان الخوف من الانجرار لصراعات عنيفة في الخارج، يجفل من التورط فيها الساسة في واشنطن، نظراً لعدم شعبيتها داخلياً. على روسياوالصين، وكذا قوىً إقليمية في المنطقة، ألا يتجاهلوا في حساباتهم، عند تورطهم في مناطق نفوذ تقليدية لواشنطن، مصالح الأخيرة ومحددات أمنها القومي فيها. ما كان من تراخٍ في إدارة الرئيس أوباما السابقة، لا يمكن له أن يستمر... خاصة أن الرئيس ترمب عزز إدارته بصقور من البنتاغون. إدارة الرئيس ترمب من خلال رمزية رد فعلها العنيف والمحدود هذا، تبعث برسالة للكرملين وكذا لحلفائه الإقليميين، بأنها مستعدة لأن تذهب إلى ما هو أبعد من هذا الإجراء الدفاعي المحدود، لحماية مصالحها وأمنها القومي في منطقة تعتبر من خاصة نفوذها الكوني. هذا يفسر لماذا أعلن الكرملين نهاية حالة التنسيق الأمني مع أمريكا على مسرح العمليات السوري، ربما ليردع البيت الأبيض عن أية إجراءات تصعيدية جديدة. واشنطن ردت بصورة غير مباشرة، وإن كانت حادة وصارمة: من أن البنتاغون يبحث في ما إذا كانت موسكو متورطة في الهجوم الكيماوي على خان شيخون. بمعنى: أن واشنطن يمكن أن يمتد عقابها لجريمة خان شيخون ليس فقط للأسد ونظامه، بل لبوتن والكرملين. الضربة الصاروخية الأمريكية على سورية بداية لعودة أمريكية أكثر حزماً وإرادة، من الناحية الاستراتيجية، على مسرح السياسة الدولية، بدايةً من المنطقة. [email protected]