Al_robai@ تقرأ في عينيه اشتعال التنوير، يقف محمد السيف بين رفوف الكتب في دار جداول، كأنه يوزّع نبض المعرفة بيديه، يقترح، ويناقش، ويتحدث، ويرشد المستفهمين عن كتب بعينها حيث الدور الأخرى، لا يقف طموحه عند مشروعه التنويري، بل تعدّى ذلك إلى اختياره مشرفاً عاماً على مركز الملك فهد الثقافي، إذ نجح في تحقيق الذات في كل ما يتاح له من مساحة، بل يزيدها رحابة دون ضجيج. يرى أن للأجيال على المثقفين حقاً. وأخذ على عاتقه تدوين سير المغيبين. يؤكد أن الثقافة لم ترق بعد إلى مستوى التطلعات.. وهنا حوار لا تنقصه الشفافية: • ما دافعك لتأسيس دار نشر، أهو جمع المال؟ •• الدافع ثقافي وتنويري بحت، وقبل أن أؤسس مع صديقي يوسف الصمعان دار جداول كنت طبعت نحو 25 كتاباً لأصدقاء سعوديين في لبنان بحكم علاقتي الجيدة مع ناشرين لبنانيين فكنت وسيطاً. وللعلم لم نحقق منذ 2010 حتى اليوم أي أرباح على رغم أن رأس المال لم يكن بسيطاً ولو استثمرناه في مطعم لبيع الشاورما في شارع العليا العام لحقق إيرادات كبيرة في غضون أشهر، ولاستعدنا رأس المال وجنينا مكاسب. ما يكفينا الآن أن الدار تصرف على نفسها منذ ثلاثة أعوام. • أين تكمن مشكلة ضعف ربحية الدور؟ •• في الكتب المترجمة فنحن ندفع للدار الأجنبية وللمترجم ويكلفنا الكتاب كثيراً ثم لا يجد في الغالب قبولا لدى القارئ كما كان توقعنا. زد على ذلك أنه منذ ما سمي بالربيع العربي ومبيعات النشر العربي في تراجع كبير، فهناك معارض توقفت تماماً وأخرى توقفت لدورتين. وثالثة لا تشهد إقبالا. والناشر العربي يعاني كثيرا، فقد كانت الكتب تصل من بيروت للمملكة في خمسة أيام عبر الطريق البري واليوم تحتاج لأشهر حتى تصل عبر البحار والموانئ في ظل تعقيدات وروتين أحياناً. • ما هي ثيمة «جداول»، وما أيديولوجيتها؟ •• دار جداول لا تحمل أي أيديولوجيا أو توجه. نحن ننشر ثقافة عامة ولكن لدينا معايير نشر صارمة؛ منها أننا لا نطبع كتبا هي في الأصل خواطر أو تغريدات أو مقالات مهما كان إقبال القارئ عليها، ومهما كانت محاولات الأصدقاء، أو إغراؤهم، أو ضغوطهم. • هل يضغط عليكم المؤلف؟ •• نعم هناك من يضغط ويحاول إقناعنا أن كتابه سيبيع، وأن مقالاته مهمة في ظل المنعطف الحرج الذي تمر به الأمة. ونحن نعلم أن الأمة تعيش في منعطفها الحرج هذا منذ 70 عاماً. معايير الدار صارمة جدا؛ منها جدية الكاتب، وقيمة الكتاب، ومضمونه التنويري والمعرفي، كون هدفنا التنوير، وكل من تعامل معنا عرف عنا المصداقية والجدية. •• بماذا ترد على من يقول إن «جداول» مدعومة؟ • والله لم تدعم لا بشكل رسمي ولا بغيره. وبحكم عملي حاليا في وزارة الثقافة والإعلام فأنا أتعامل مع المسؤولين عن النشر والمعارض مثل أي ناشر. والدار الجيدة تفرض نفسها. • هل هناك دور نشر استغلت المؤلف السعودي؟ •• نعم، وكثيراً، ولعل هذا أحد أسباب تأسيس جداول حماية للمؤلف السعودي من الاستغلال. ونحن نقدم للمؤلف تقريرا مفصلا سنويا أو نصف سنوي يتضمن كل التفاصيل من الطباعة والعدد والمباع والمتبقي والاستحقاق المالي. وهناك من المؤلفين من دفعنا حقوقهم كاملة قبل طباعة الكتاب ونشره، إذا كان لدينا يقين بأن الكتاب سيجد رواجاً وانتشاراً. • كم طبعتم من الكتب حتى الآن؟ •• 360 كتاباً خلال ستة أعوام؛ منها 120 كتاباً مترجماً. تقريباً من عدد من اللغات، خاصة اللغة الإنجليزية والفرنسية. • كيف ترى مستوى الرقابة في معارض كتبنا؟ •• الرقابة موجودة في كل المعارض، وربما تنعدم في معرضي بيروت والشارقة. وصدقاً الرقابة لدينا أكثر مرونة من معرضي أبوظبيوالكويت على سبيل المثال. أنا لست ضد الرقابة، هناك كتب يجب أن تمنع. ولا مشكلة عندي عندما أنشر 400 كتاب ويمنع منها عشرة في معرض ما، كونه يمكن عرضها في مكان آخر، أو للقارئ طريقة في الوصول إليه والبحث عنها وتحصيلها، لكن معرض الكتاب في الكويت أخيرا منع لنا نحو 50 كتاباً وهذا مؤشر غير إيجابي. وللعلم لم يعد الناشرون يتضايقون من رقابة معارض الكتب في جدةوالرياض، كون سقف الرقابة مرتفعا. • ماذا عن توجهكم للكتاب الرقمي؟ •• تجربة واحدة لنا لم تنجح، في عام 2012 كان هناك هوس كبير وتنافس بين دور نشر عربية لإنشاء مكتبة إلكترونية. وطلبت منا مكتبتان عريقتان في بيروت أن نسهم معهما بكتب إلكترونية على أن يسوقوها، فأعطيناهم أربعة كتب على سبيل التجربة، ولكنهم سرعان ما أغلقوا المشروع وألغوا الفكرة. • من ينافس «جداول» محلياً؟ •• كثير من دور النشر تنافسنا، ونحن نرحب بالمنافسة وأنا ضد الاحتكار للمؤلف. بالعكس من حقه أن ينوع في نشره عند أكثر من دار، ولا يدل التنويع في دور النشر أن التجارب سيئة. • ما هدف مشروعك الكتابي التوثيقي؟ •• هو مشروع الحلم والطموح. ناصر المنقور، وعبدالله الطريقي من الرجالات التي بنت الدولة وبذلوا جهوداً كبيرة، إدارياً وسياسياً وثقافياً ودبلوماسياً، عملوا بجد واحترام، لكنهم غابوا عن الذاكرة طويلا. بالطبع هناك جهات حكومية مسؤولة عن حفظ حقوقهم وإحياء ذكراهم ورد الاعتبار لهم من خلال توثيق منجزهم، لكن هذا لم يحدث مع الأسف. عنايتي كانت بالشخصيات الملهمة للأجيال. البلد قام على أكتاف رجالات أفذاذ في مختلف المجالات. وهناك شخصيات بحجم عبدالله السليمان ومحمد سرور الصبان وعبدالله عبدالجبار وأحمد عبدالغفور عطار وأحمد السباعي وحمد الجاسر وعبدالكريم الجهيمان، لم يُكتب عنهم بما يليق ودورهم في المجتمع. • من أين انطلقت لتدوين السير، من قرابة، أم قبيلة، أم مناطقية؟ •• أبداً، ناصر المنقور لا تربطني به علاقة، ولم ألتق به في حياتي. وأول سيرة كتبتها كانت حلقات مطولات عن عبدالله القصيمي في صحيفة إيلاف. واعتمد إبراهيم عبدالرحمن في كتابه عن القصيمي على بعض مما جاء فيها، وليس بيني وبين القصيمي قرابة أو علاقة، فالتوثيق وطني ومعرفي وتنويري. • لكنك ترتبط بعلاقة بالوزير عبدالله الطريقي؟ •• نعم هو من أسرة الطريقي، وفيهم خؤولتي. • كيف حافظت على الموضوعية وأنت تكتب عنه؟ •• عاهدت نفسي أن أكتب بموضوعية، أكتب ما للرجل وما عليه، وإني لأرجو أن أكون قد فعلت، وأودعت سيرته التاريخ، وقد أشادت صحف وكُتّاب بالموضوعية التي تناولت بها سيرة عبدالله الطريقي. • لماذا صخور النفط ورمال السياسة؟ •• لأن شخصية عبدالله الطريقي قاسية وحادة كالصخر، هو عنيد جداً، وبالمناسبة ابنه البكر صخر. وكان في مواجهته مع أرامكو صخراً فحقق كل ما أراد من مطالب. وحينما آمن بالناصرية وتعاطف مع عبدالناصر خرج من الحقل الفني والتقني والإداري وغاص في رمال السياسة المتحركة. • كيف نجحت في الإلمام بسيرته؟ •• كان هناك أرشيف مجلته «نفط العرب للعرب» لدى زوجته مها جنبلاط، وهي تحتفظ ببعض أوراقه وصوره الشخصية ومقالاته، إضافةً إلى أني التقيتُ ببعض من أصدقائه قبل رحيلهم، فأثروا السيرة بما في ذواكرهم عنه، إضافةً إلى ذلك بحثي في أراشيف الصحافة السعودية والعربية. • ما أبرز الصعوبات التي واجهتك؟ •• السفر والترحال ثم الوقت اللازم للكتابة. • ماذا عن ناصر المنقور؟ •• أيضاً حاولت أن أكتب عنه بموضوعية، كان هو وإبراهيم العنقري وعبدالوهاب عبدالواسع معارضين فكرة إنشاء جامعة الملك سعود، فأصر الملك سعود على تأسيس أول جامعة وعندما عُهد إلى المنقور بملف تأسيس الجامعة نجح وقامت أعرق الجامعات في الجزيرة العربية. • إلى متى ستظل تكتب عن الأموات؟ •• غالباً الحي لا يريد كتابة سيرته، وإن تقبّل الفكرة فسيطلب منك كل جزء كتبته ليراجعه ويعدل ويحذف وتكون تحت رحمته زمناً طويلاً، وربما لا يوافق على النشر. • ومن يستهويك أيضاً للكتابة عنه؟ •• رجالات كُثر، من أمثال المستشار السياسي الرفيع حمزة غوث، والشيخ محمد سرور الصبان، والشيخ عبدالله السليمان، والأستاذ عبدالعزيز المعمر، وغيرهم، لكن الوقت لا يُسعف، والواقع يتجاوز الأماني. • ما الجديد؟ •• عمل يوثق سيرة منشأة حكومية، يتم من خلاله توثيق سير رجالات وطنية. • ماذا لديكم في مركز الملك فهد الثقافي من برامج؟ •• لدينا الآن ليالي المسرح السعودي، وسيتبعها ليالي الفلكلور الشعبي، الذي سنقدم من خلالها التنوع الفلكلوري والشعبي والموروث من كافة أنحاء المملكة؛ شعراً وموسيقى ورقصات وأهازيج. • ألسنا بحاجة إلى قانون يمنع التطاول على مناسبات الفنون؟ •• بلا، أنا معك كون الطرب تحديداً ظل يتقدم خطوة ويتراجع خطوات، والقانون الصارم يحمي القرارات والمنجزات من التطاول. • أين تقف من تعدد انتماءات المثقفين؟ •• موقف المعجب بالتنوع والمؤمن بالاختلاف، التنوع ثراء ونحن لا نريد أن نكون نسخة واحدة من بعضنا. • لا تزال هيئة الثقافة وليدةً حتى هذه اللحظة رغم إعلان هيكلها التنظيمي أخيراً، تعدّ طموحاً للمثقفين والأدباء منذ مؤتمرهم الأول، ولكن يخشى المثقفون أن تهيمن عليها الهدف المالي، وتسليع الثقافة، كيف يمكن للهيئة أن تكون ضمير المثقف، ولا يشعر أنها تتاجر به؟ •• لا أظن أن الهيئة العامة للثقافة سيكون هدفها مالياً، هي ستسعى إلى لملمة شتات الثقافة والفنون والآداب والنهوض بها؛ كونها هيئة مستقلة هذا يعطيها مرونة في دعم وتمويل النشاط الثقافي، كما يعطيها الحق في تمويل أنشطتها ومشاريعها عبر الشراكات مع القطاع الخاص. والمؤمل أن تحقق الهيئة تطلعات المثقفين، وعلينا أن نتفاءل بها وندعمها، وألا نبدأ بالتشكيك بها وهي لم تنطلق بعد. يجب أن يكون الحكم على أنشطتها بعد قيامها بزمن ليس بالقليل. • صدرت موافقة مجلس الوزراء بإنشاء هيئة حقوق الملكية الفكرية، وهذا ما يتاخم طموحكم في حفظ حقوق الكتاب، هل ثمة بوادر وملامح أولى لهذه الهيئة؟ •• لا شك إن إنشاء هذه الهيئة المعنية بحقوق الملكية الفكرية مطلب وطني، ودليل وعي. لا بد من حماية براءات الاختراع والأعمال الإبداعية والعلمية والأدبية والفنية، والسماح للمبدع ومالك الحق والمؤلف وغيرهم بالاستفادة مما صنفه وعمل عليه والاستثمار فيه. • من خلال موقعكم في مركز الملك فهد الثقافي في الرياض، أعدتم الأمل إلى الكثير من المثقفين والتنويريين، هل تواجهون خطابات من تيارات مناوئة تسعى إلى تعطيل برامجكم؟ •• مركز الملك فهد الثقافي هو معلم ثقافي من معالم الثقافة السعودية، ومن حسن الحظ أن انطلق أول برنامج ثقافي له هذا العام (2016-2017) وقد تضمن -ولا يزال- فعاليات مختلفة ومتنوعة تخص المثقف والمثقفة، وكذلك الطفل والأسرة، وهي فعاليات موجهه لشرائح المجتمع كافة. ومن الطبيعي أن هناك من لا يعجبه شيئا مما يقدم في المركز من نشاطات وبرامج، لكن عن إعجاب هذا الشخص أو ذاك لن يُعيق عمل المركز، وسنمضي قُدما في خدمة الثقافة والمثقفين. • يتهم المثقف السعودي في المشهد العربي بالتخاذل إزاء القضايا الكبرى، كيف يمكن تفسير هذه النظرة الدونية لدى بعض المثقفين العرب؟ •• أولا، غير صحيح أن المثقف السعودي متخاذل إزاء القضايا الكبرى، فللمثقف السعودي اليوم حضوره الكبير والمؤثر في المشهد الثقافي، وهذه النظرة الدونية من «بعض» المثقفين العرب ورثوها ممن سبقهم، وربما سيورثها هذا «البعض» إلى أجيال لاحقة. هذا «البعض» لا يبحث في الغالب عن الحقيقة، ولا يرغب بأن يسمع ما يصادم قناعته، وتلك هي مشكلته هو، لا مشكلة المثقف السعودي. • ثمة ظواهر فكرية وتنويرية تنمو وتبرز بين الفينة والأخرى ثم تخبو في المملكة، والحداثة أنموذجاً، في ظل أن الحركات الإسلامية المتطرفة ارتفع صوتها، إلى أية أسباب تعزون أسباب تراجعها؟ •• الحداثة كانت هشة، وكانت نخبوية. كانت حداثة في النص الأدبي، ولم تتجاوز صفحات الأدب ومسرح النادي الأدبي، على العكس تماما من حركة الصحوة الإسلامية، التي هيمنت على مفاصل مهمة في التربية والتعليم، وكان لها منابرها ومحاضنها الشعبية، وأذرعتها التي كانت تجوب قاعات الأندية الأدبية ومهرجانات الثقافة ومسارح الجامعات للتنديد والشجب والاستنكار، لذلك لا عجب أن يوزع من كتاب عوض القرني ضد الحداثة آلاف النسخ في زمن محدود، وأن يجد رواجا، بينما يُمنع مقال للكاتب محمد العلي في الرد على الكتاب من أن يُنشر في الصحافة. هذه الشعبية الجارفة للصحوة هي التي أكدت على الوقوف إلى جانب الصحوة والقضاء على أي شيء اسمه «حداثة». إضافة إلى أسباب أخرى ليس هنا مجال لبسطها.