نسبة قلبية العقل إلى العلم: ينسب بعض الأطباء بين فينة وأخرى للعلم أنه ينص على أن القلب هو مكان العقل والمسؤول عنه، فما مدى صحة ذلك؟ قبل الإجابة على ذلك لا بد من مقدمة. المصادر العلمية في هذا العصر عديدة الأنواع وكل نوع يختلف عن الآخر في قوته إن صح التعبير. الدراسات الإكلينيكية تعد من أقواها، أما أضعفها فهو «رأي العالم»، والذي يتكون من خبرة العالم لا بناء على تجارب الدراسات. فحين تغرف من بركة الأوراق العلمية ستجد الأوراق القوية والأوراق الضعيفة، بل إن صادفت ورقة قديمة تعود إلى عدة عقود، قد تجدها مخطأة من قبل الأوراق الحديثة. فالعلم في كثير من مجالاته أبعد ما يكون عن الثبات، أي أنه متغير، بل ومتبدل. يقع البعض فريسة لمتحمسي الإعجاز العلمي ومتحمسي الإلحاد على حد سواء. فبعض الملاحدة الذين يريدون استخدام العلم لصالحهم في حربهم مع فكرة الإله يستشهد بورقة علمية منشورة عام 1967 تقحم شخصية النبي محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وتشرع في تفسير الوحي كأمراض محتملة، كما أن بعض متحمسي الإعجاز العلمي يستشهد بورقة تنسب العقل للقلب لأن شخصا ما ذا قلب مزروع وجد نفسه فجأة يحب دجاج كنتاكي «لأن» المتوفى المتبرع بالقلب كان يحبه ولأسباب أخرى على هذا المنوال. فهل نستطيع أن ننسب المثالين المذكورين آنفا للعلم؟ نعم بتحفظ. لكن هل نستطيع أن ننسب لهما حجية العلم؟ لا وبصراحة. لماذا؟ لأن ليس كل ما يستخرج من بركة العلم يصح نسبة حجية العلم له. فالحجة لا تكون بمجرد النسبة للعلم بل بفحص المعلومة المنسوبة للعلم منهجيا. فهل تقف أمام أدوات النقد العلمي المتعارف عليه حاليا أم لا؟ وبالمناسبة، فإن عديداً من المواضيع العلمية في طب الأعصاب لا تحتمل احتكار تفسير الظواهر بشكل حصري، وذلك يعود لعدم تمكننا حتى الآن من فك أسرار الدماغ بشكل يمكننا من فهمه فهما صلبا لا يحتمل وجهتي نظر. بل وكثير من علماء الأعصاب يرون أن هذه حالة مستحيلة في الدماغ لاختلافه في التفاصيل باختلاف عدد الناس ولأنه رهن محيطه الخارجي بكل احتمالات هذا المحيط غير المنتهية. والحالة هكذا، تفقد جملة «أثبتت الدراسات» مفعولها كقرآن يهيمن على بقية الآراء وينقضها إذا لم تكن موافقة له. إذن، لمَ التبس على الناس بمختلف مشاربهم وحضاراتهم وأزمانهم بأن نسبوا المشاعر على الأقل - وهي جزء من العقل - إلى القلب؟ اعتقادي الشخصي أن ذلك مفهوم تماما. فالناس إذا ما ترقبوا انقبضت صدورهم، وإذا ما خافوا رفرفت قلوبهم، وهكذا دواليك. فعادة البشر على مدى تاريخهم، أن يحاولوا تفسير الظواهر من حولهم وفي دواخلهم، تفسيرا يستطيعون به بناء منظومة مفهومة بالنسبة لهم يدركون من خلالها. فنسبوا الحب والإيمان، بل والعقل إجمالا إلى القلب بناء على تمظهر العقل في القلب قلقا وخوفاً وترقباً وفرحاً. لكن المكان المسؤول عن تنظيم المشاعر وإصدارها تجاوبا مع المواقف المحيطة هو الدماغ، رغم أننا لا نشعر بشيء داخل أدمغتنا جراء ذلك، بل نشعر بها تتمظهر في جسدنا بخفقات القلب وبالحزن في الصدور وبالتعرق وغير ذلك مصداقا لذلك، جلطة محددة في لوزة الدماغ «الأميجدالا»، المكان المسؤول بشكل كبير عن شعورنا بالخوف بالذات، تتركنا فاقدي القدرة على الخوف. هذا سيتم سواء أكان المصاب ذا قلب سليم أو مريض. أما لو كانت اللوزة والدماغ بشكل عام سليمين، فلن يفقد الإنسان القدرة على الخوف إن كان ذا قلب سليم أو مريض أو حتى مزروع. بقي أن أنبه على أن الجسم بدوره يؤثر على الدماغ - فبالتالي - يؤثر العقل. فمثلا، إذا انتابني الجزع، ينظم الدماغ العملية وينتجها فأشعر بالتعرق والخفقان وانقباض الصدر ونوع من المغص وما شابه ذلك. هذه الأعراض بدورها تزيد من الجزع المستوعب في الدماغ، بمعنى آخر، تجعل الإنسان أكثر إدراكا لجزعه. في النهاية، العقل مفهوم معقد، لعدة أسباب منها تملصه من قبضة التحديد الدقيق حتى قبل دخوله مجال العلم، إضافة لتعقيد الدماغ تعقيداً يعسر حتى على العلم بكل ما وصل إليه الآن من كشف كل أسراره الدقيقة. ناهيك عن اعتماد دماغ كل فرد على بيئته التي ينمو فيها ويدرك فيها حتى يتشكل كاستجابة لهذه البيئة، وبذلك توجد هناك مناهل تكاد تكون غير منتهية تساهم في تكوين عقل كل فرد. رغم ذلك، يعتقد المجتمع العلمي العصبي حالياً، أن المكان الذي يحدث فيه العقل هو الدماغ وليس القلب. * زميل أبحاث في طب الأعصاب في جامعة جورج واشنطن.