قضايا السَّعوَدَة وسوق العمل كان لها نصيب الأسد من نحو 400 مقال كتبتها في زاوية «أكاديميات» بمجلة اليمامة منذ عام 1414ه، قبل أن أتَوَقَّف عن الكتابة الأسبوعية المُنتَظَمَة بعد مقال «سوق الأسهم: التكرار مكسب للشطار»، في 11 صفر 1427ه (11/3/2006م). ومنذ ذلك التاريخ، كَتَبت أقل من 10 مقالات عن مواضيع مختلفة في عِدَّة صحف محلية، ولا أذكر إن كان أحدها عن هذا الموضوع المُؤرِق لأي قيادة سياسية في أي دولة على الكُرَة الأرضية. وما جَرَّ قلمي للكتابة مرة أخرى عن موضوع السَّعوَدَة مقال في صحيفة «عكاظ» (http://bit.ly/2fPAC03) للأستاذ محمد أحمد الحساني بعنوان: «التَّقدُّم إلى الوراء»، حيث تَحَدَّث عن وَضع العامِل السعودي في القطاع الخاص من جانب «الأمان الوظيفي»، وذلك بعد تعديل نظام العمل السعودي الذي صَدَرَ بموجب المرسوم الملكي رقم م/46 في 5/6/1436ه. النقطة المحوريَّة التي تَطَرَّق لها الأستاذ الحساني والمتعلِّقَة بفصل العامل السعودي لأي سبب تراه الشركة، تتعلَّق بهدية ثمينة جداً أهدتها وزارة العمل للقطاع الخاص السعودي تَضَمَّنتها المادة «77» من نظام العمل، كما جاءت في النَّص الجديد كالتالي: ما لم يَتَضَمَّن العقد تعويضاً محدداً مقابل إنهائه من أحد الطرفين لسبب غير مشروع، يستحق الطرف المُتَضَرِّر من إنهاء العقد تعويضاً على النحو التالي: (1) أجر خمسة عشر يوماً عن كل سنة من سنوات خدمة العامل، إذا كان العقد غير محدد المدة. (2) أجر المدة الباقية من العقد إذا كان العقد محدد المدة. (3) يجب ألاّ يقلّ التعويض المشار إليه في الفقرتين «1» و«2» من هذه المادة عن أجر العامل لمدة شهرين. وللتذكير، فإنَّ النَّص القديم للمادة «77» كان كالتالي: «إذا أُنهيَ العقد لسبب غير مشروع كان للطرف الذي أصابه ضرر من هذا الإنهاء الحق في تعويض تُقَدِّره هيئة تسوية الخلافات العمالية، ويراعى فيه ما لحقه من أضرار مادية وأدبية حالة واحتمالية وظروف الإنهاء». حَمّودي!؟ شركة عِملاقة تبيع سِلَعا استهلاكية لماركات فاخرة جداً ومنتشرة في دول عربية وأوروبية، استقطبت الشاب السعودي «حَمّودي» براتب شهري ثمانية آلاف ريال، مع بدل السكن المُقرَّر لمنسوبي الشركة، حيث كان يعمل قبل ذلك في شركة أخرى. ونتيجةً لتفاني حَمّودي في عَمَلِه وتقدير إدارة الشركة لذلك، ارتفع راتبه الشهري خلال خمس سنوات إلى «12000» ريال، حيث استطاع خلال هذه الفترة أن يتزوج ويُنجِب طفلين ويشتري شقة بالتقسيط. وفي ظهيرة يوم الأحد الأسود، وأثناء قيامه بعمله خارج مقرّ الشركة، اتَّصَلَت به الإدارة وقالت إن مديره يريد مقابلته. عاد حَمّودي إلى مَقَرّ الشركة ودخل على المدير الذي شَكَره وسَلَّمه خطاب شُكر من الشركة على حُسن عَمَلِه، وخطابا آخر يُبلِغه بإنهاء علاقته بالشركة، ثُمَّ ناوله شيكاً براتب شهرين؛ وتمنى له التوفيق والنجاح!!؟ وقد كانت حُجَّة الشركة المكتوبة لفَصل حَمّودي هي إعادة الهيكلة Restructuring. لكن الشيء «اللطيف جداً» في هذه المأساة الاقتصادية الاجتماعية أنَّ مدير حَمّودي غير سعودي!!!. عُمَّال يومية!؟ قبل تغيير نَصّ المادة «77» لا تستطيع أي شركة القيام بهذه الخطوة، وبهذه الصَّفَاقة، لأنَّ ذلك يُعتَبَر فَصلاً تَعَسُّفيَّاً. لذلك، كانت مثل هذه الشركة تلجأ إمَّا للتفاوض مع حَمّودي لتخفيض راتبه، أو تستعين بإستراتيجية التطفيش الشهيرة، حتى يقتنع حَمّودي ويُقدِّم استقالته بعد عِدَّة أشهر من التطفيش، أو يتفق مع الشركة على طريقة فك ارتباط يرضى عنها الطرفان. واضح جداً من النَّص القديم للمادة «77» أنَّها وُضِعَت لِتحمي العامل من بَطش صاحب العمل، وتجعل بينهما حَكَماً مُحايداً يَحكُم في مصداقية صاحب العمل وجِديَّة العامل، وهي هيئة تسوية الخلافات العمالية بوزارة العمل. وبالتالي، كانت الشركات والمؤسسات قبل تعديل المادة «77» لا تستطيع فَصل العامل بِشَخطَة قلم وتفتح له باب الخروج فوراً، كما حَدَثَ للشاب حَمّودي دون سابق إنذار، وكأنَّه عامل يومية، وليس موَظَّفاً خَدَمَ الشركة أكثر من خمس سنوات. سيقول زملاؤنا الاقتصاديون ورجال القطاع الخاص، يجب أن يكون لدى مؤسسات القطاع الخاص المرونة الكافية Hire and Fire للتأقلم مع المتغيرات الاقتصادية، بحيث إنها تنحني إذا هَبَّت عليها رياح سَمُوم اقتصادية، وذلك بتقليل عدد الموظفين، ثُمَّ تزيد عددهم عندما تهب رياح مُحَمَّلة بالأمطار. هذا الكلام صحيح، ولا يُجادِل فيه عاقِل إذا كان جميع اللاعبين في سوق العمل مواطنين. ولكن حينما يكون أكثر من 90% من عمالة القطاع الخاص وافدين من دول معدل دخل الفرد فيها لا يتجاوز 20% من معدل دخل الفرد السعودي، فلا يستطيع شخص حصيف ومُنصِف يوازن بين السلبيات والإيجابيات الواقعية أن يُدافِع عن النص الجديد للمادة «77». الشيء المؤلِم، أنَّ حَمّودي ليس السعودي الوحيد الذي فَقَدَ عَمَلَه هذا العام، بل هناك آلاف غيره. والنقطة التي غابت عن النَّص الجديد للمادة «77» هي الاختراع العظيم المُسَمَّى «التوطين المجتمعي» في برنامج «نطاقات المساندة»، الذي يُتيح للشركة أو المؤسسة تحقيق نِسبَة السَّعوَدَة المطلوبة مُقابِل دفع مُقابِل مالي 3600 - 9000 ريال شهرياً عن كُل عامل وافد تريد توظيفه زيادةً عن نسبة السَّعوَدَة المُخَصَّصَة لها. وبالتالي، وفي ظِلّ النَّصّ الجديد للمادة «77»، كيف يُمكِن التأكد من أنَّ شركة حَمّودي وبقية الشركات التي استغنت وستستغني عن السعوديين لَن تُوَظِّف بدلاً منهم عمالة وافدة!؟ استقدمنا في سنة واحدة سكان دوَل!؟ ولكن الطَّامة الكُبرى في النَّص الجديد للمادة «77» لنظام العمل، هي حقيقة وجود أكثر من 11 مليون عامل وافد في المملكة، بل إنَّ وزارة العمل الموقَّرة أصدَرَت أكثر من ثلاثة ملايين تأشيرة استقدام في عام 2015م، منها 996 ألف عمالة منزلية و2.03 مليون عمالة قطاع خاص!! فهل يعي مسؤولو وزارة العمل معنى دخول ثلاثة ملايين و100 ألف وافد للمملكة في عام واحد!؟ إنهم أكثر من سكان دول كثيرة. بمعنى آخر، المملكة استقدمت سكان دولة كاملة في عام واحد. فهل سَيَتَمَكَّن أبناؤنا وبناتنا من منافسة ملايين هؤلاء العُمَّال الوافدين من دول فقيرة جداً!؟ أهداف رؤية 2030 لا أحد يدري كيف ستُحَقِّق رؤية 2030 أهدافها الوطنية العظيمة، في ظِلّ هذه التناقضات والتنافرات الاقتصادية الكبيرة جداً في أجزاء وجزيئات الأجهزة التنفيذية الحكومية. ويأتي على رأس أهداف رؤية 2030 العظيمة هدف توليد 280 ألف وظيفة للسعوديين عام 2017م، فكيف سيَتَحَقَّق ذلك في ظِلّ طوفان استقدام العمالة الوافدة ودَمَويَّة المادة «77»!؟. خُلاصة القول، أنَّنا ما زلنا نُعاني من شِبه انعدام التنسيق بين قرارات الأجهزة الحكومية، بل وأحياناً كثيرة تناقُض وتنافُر قرارات الجهاز الحكومي الواحد، وهي ذات المشكلة والمُعضِلَة الأزليَّة التي نُعاني منها منذ أن تَفَتَّحَت أعيُننا على تُراب مملكتنا الغالية.