للإجابة على السؤال أعلاه، لا يوجد خيار واحد ينطبق على جميع الحالات. ولكن قد يكون هناك خيارات صحيحة وأخرى أكثر صحة للرد على هذا التساؤل! فمثلاً تمثل عملية جذب الاستثمارات المباشرة أحد أهم الخيارات المطروحة، وذلك عن طريق تهيئة المناخ الملائم لممارسة الأعمال. ولكن هذا لا يعني أنها الطريقة الوحيدة للتنمية الاقتصادية المحلية. والتي تهدف إلى توفير الوظائف للسكان المحليين وتنمية الاقتصاد المحلي. حيث تعددت السياسات والهدف واحد. وهنا سيتناول السياسات المختلفة التي من شأنها تنمية الاستثمار، والمساهمة في عملية التنمية الاقتصادية المحلية. وذلك باستعراض أفضل الممارسات المعروفة دولياً، وتاريخ نشأتها كمجالٍ حديث للمعرفة وتطبيقاتها العملية.حيث لاحظ الباحثون في هذا المجال، تطور ممارسات التنمية الاقتصادية المحلية وتغيرها عبر العقود الماضية. وذلك بتحولها من جانب العرض المعني بتحسين البيئة الاستثمارية وإيجاد بيئة جاذبة للاستثمار. إلى جانب الطلب الذي يسعى لتحفيز الطلب على الاستثمار عن طريق ريادة الأعمال. وللعودة إلى الجذور التاريخية لتنمية الإستثمار في العصر الحديث، نجد أن ذلك يعود إلى ما قبل ثمانية عقود. حين بدأت بعض الحكومات المحلية، بإيجاد بيئة جاذبة للاستثمار. وذلك في بداية الثلاثينيات الميلادية من القرن الماضي. وقد استخدمت تلك الحكومات عدة أدوات للتنمية الاقتصادية المحلية. حيث وفرت بنية تحتية متكاملة، وأراضي مطورة لقطاع الأعمال، بالإضافة إلى الحوافز الضريبية، والإعفاءات المالية التي استفاد منها القطاع الخاص. والتي مثّلت محاولات جادة لتيسير ممارسة الأعمال، وخفض تكلفتها على المستثمرين. وقد استهدفت تلك الاستراتيجيات جذب مزيد من الاستثمارات من الخارج. ليبلغ هذا التوجه ذروته عند تبني إنشاء المدن الصناعية لخدمة الصناعات التحويلية، في نهاية ستينيات القرن الماضي . وقد عرف هذا الاتجاه فيما بعد، بالمنهج التقليدي للتنمية الاقتصادية المحلية. وثار حوله جدل كبير، منذ بداية السبعينيات. حيث ساق الباحثون عدداً من الحجج ضد هذا التيار الكلاسيكي. وأثاروا تساؤلاتٍ عدة عن جدوى هذا الأسلوب لتنمية الاستثمار. وكانت قضية خلق الوظائف من أبرز النقاط المثيرة للجدل، كونها تمثل الهدف الأساسي للتنمية الاقتصادية. لذا أشار عدد من المهتمين، إلى أن هذه السياسات التقليدية لا تساعد على صنع المزيد من الوظائف. بل تنقل الوظائف من منطقة إلى منطقة، داخل نفس الدولة. أيضاً ذكر آخرون أن الشركات ستختار المكان الذي يناسبها، سواءً وجدت الحوافز أم لم تجدها. ولذلك فلا جدوى من بذل إي مجهود لاستقطاب منشآت القطاع الخاص للاستثمار في المنطقة المستهدفة. أما الحجة الأخيرة ضد جانب العرض، فتمثلت في التحفظ على الإضافة الاقتصادية لمؤسسات الأعمال التي يتم جذبها للاستثمار في إقليمٍ معين. حيث أثبتت أدبيات التنمية المحلية، أن الشركات القادمة للاستثمار من خارج الإقليم، لم توفر وظائف كما وعدت، ولم تحقق عوائد اقتصادية ملموسة للمدن التي عملت فيها. مما جعل بعض منظري هذا المجال يرون: أن منفعة جذب الاستثمار، كمطاردة سرابٍ بقيعة. كل ذلك أجبر الحكومات على إعادة النظر في أسلوب التنمية الاقتصادية المتبع، والذي يركز على ترويج الاستثمار وتسهيل الإجراءات. وبدأت المؤسسات المعنية بالتنمية، تبحث عن سياسات أخرى تناسب الأوضاع الاقتصادية في السبعينيات. وهكذا تبنت الوحدات المحلية منهجاً جديداً، لتحقيق التنمية الاقتصادية. وذلك بالإعتماد على جانب الطلب على الاستثمار، عن طريق الاستراتيجيات المحفزة لريادة الأعمال. وكانت حاضنات الأعمال من أبرز الأساليب الحديثة التي تم تبنيها لدعم جانب الطلب على الاستثمار. بالإضافة إلى دعم الصادرات، والتدريب، والبحوث والتطوير، ومساعدة أصحاب الأعمال على تسويق منتجاتهم. وعلى هذه الصورة، بدأ الانتقال في بداية الثمانينيات، من أسلوب العرض التقليدي، إلى جانب الطلب على الاستثمار. وذلك عن طريق دعم الصناعات الحديثة كالصناعات عالية التقنية. وكان وادي السيليكون بولاية كاليفورنيا الأمريكية، من أنجح النماذج التي شجعت الحكومات الأخرى على تبني سياسات رعاية الإبتكار والإختراع، وتهيئة المناخ الملائم لريادة الأعمال. وقد تركزت تلك الجهود على دعم المنشآت الصغيرة، وتوفير مصادر التمويل اللازمة لها. وذلك بهدف تعزيز النمو الاقتصادي. وهكذا تحولت استراتيجيات التنمية الاقتصادية، من جذب المستثمر الأجنبي إلى تشجيع المستثمر المحلي. ومن الإهتمام بالشركات الكبيرة إلى تنمية المنشآت الصغيرة. ومن عرض البنية التحتية المطورة إلى تطوير البنية الناعمة المتمثلة في تنمية الموارد البشرية والتدريب والبحوث والتطوير. وكذلك انتقلت وسائل التنمية من الإهتمام بتسهيل الإجراءات والحوافز الضريبية، إلى إيجاد مصادر التمويل وإنشاء صناديق رأس المال المغامر. واستبدلت أساليب ترويج الاستثمار، بالتسويق المباشر للمنتجات المحلية. واستمر هذا التيار حتى تغيرت الأوضاع الاقتصادية، في ظل العولمة. وأصبح تنقل رؤوس الأموال أكثر سهولة من ذي قبل. حيث ظهرت قوى جديدة، تمثلت في هيمنة الشركات متعددة الجنسية على الساحة الاقتصادية. وبدأت هذه الشركات في البحث عن الأماكن الأقل كلفة، والأكثر حوافز.مما دعا إلى عودة التنافس بين الدول والمدن والأقاليم، لإيجاد المزيد من الوظائف للمواطنين. حتى لم تجد الحكومات بداً من العودة إلى المنهج التقليدي لجذب الاستثمار، وذلك للمحافظة على اقتصاداتها من الانكماش. وبهذا ساهمت تلك الموجة الأخيرة في تأسيس بعدٍ جديدٍ للتنمية الاقتصادية المحلية.وذلك بالمزجبين السياسات التقليدية لجذب الاستثمار، والأساليب الحديثة لتنمية ريادة الأعمال. وذلك في قالب نيوكلاسيكي، يمثل نظرية ما بعد الحداثة في مجال التنمية الاقتصادية. التي طالها ما طال غيرها من العلوم وتطبيقاتها، وذلك عن طريق الإنتقال بين طرفي نقيض، حتى أناخت ركابها في موضع متوسط بين القديم والحديث. وأصبحت الشراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص، نتيجة حتمية للمحافظة على مصالح القطاعين. وأخيراً، سادت فكرة التخطيط الاستراتيجي المحلي الشامل، الذي يقوم بإشراك جميع الأطراف في عملية التنمية الاقتصادية. مع المحافظة على العدالة الاجتماعية،وحماية البيئة. بحيث يتم توفير بيئة ملائمة لجميع الأعمال الكبيرة والصغيرة، وكذلك الاستثمارات الأجنبية والمحلية. وإعطاء أولوية لتحسين مستوى حياة الأفراد والمجتمعات المحلية. وأصبح التركيز على المزايا التنافسية المحلية، التي تميز منطقة ما عن غيرها. وذلك عن طريق بناء القدرات المحلية والموارد البشرية.علاوة على تبني إنشاء التجمعات العنقودية، التي تساعد على التكامل بين القطاعات، بما يحقق الاستفادة القصوى من الميزة التنافسية للمنطقة المعنية. وبذلك تعددت أدوات التنمية الاقتصادية، وظهرت أساليب متنوعة لتحقيق أغراضها. وتبنت الوحدات المحلية عدداً من هذه الطرق. مثل برامج المعونة الفنية لمنشآت الأعمال، والمشورة المالية،وتقديم المعلومات الاقتصادية. وكذلك برامج دعم المرأة، ودعم الأسر المنتجة. بالإضافة إلى تنظيم المؤتمرات الاقتصادية، والمعارض التجارية، والمهرجانات السياحية، والفعاليات الثقافية. وبما أن الخيارات قد تنوعت، فقد أصبح لزاماً على الوحدات المحلية المعنية بالتنمية، اختيار أفضل الطرق، لتحقيق التنمية المستدامة. بحيث لا تكون هذه الأدوات هدفاً في حد ذاتها، بل وسائلاً ضمن استراتيجية شاملة. مما يستوجب أن تخطط الوحدات المحلية جيداً لاستخدام السياسات المناسبة لوضع الاقتصاد المحلي. وذلك بالموائمة بين أفضل الأساليب المتاحة، للوصول إلى غاية التنمية الاقتصادية التي تهتم ببناء الإنسان والمكان. . عبدالرحمن حترش حشيش مستشار اقتصادي ورئيس اللجنة العلمية لمنتدى الاستثمار الثاني بنجران