المفلس، أو المهزوم، عندما يشتم ويتجاوز كل القيم، ومعايير الأخلاق ليطفئ بها نار غيظه، وفشله، وشعوره العميق بالهزيمة والإحباط، هو- دون أن يعي ربما - يعلن عن عجزه، وضيق حيلته، وعدم قدرته على تغيير الواقع؛ فلا يجد أمامه إلا الشتم والقدح والسب، ليفرغ من خلال بذاءاته ما يُعانيه من إحباط، وما يشعر به من مرارة الهزيمة واليأس والإفلاس؛ وهو في وضعه المزري هذا أشبه ما يكون بذلك الرجل الذي لم يجد أمامه بعد هزيمته إلا أن كال لمن هزموه كل ما في قاموسه من السب والشتم والبذاءة، وعندما عاد المسكين إلى مرابع قومه قال: (أوسعتهم شتماً وساروا بالإبل)، فضحك قومه، وذهبت مثلا؛ فالعبرة بمن (يكسب) في نهاية المطاف؛ لا بمن يُجعجع. وأنا بصراحة (أتفهّم) موقف دعاة الانغلاق والتخلف والتحجر عندما يشنون على سمو الأمير فيصل بن عبدالله وزير التربية والتعليم كل هذه الحملة من الانتقادات المغرضة والتجريح الشخصي؛ فهو يسعى بالبلاد إلى الانفتاح والتحضر والرقي وصناعة إنسان المستقبل، والاستفادة لتحقيق ذلك من تجارب الآخرين ممن سبقونا في ميادين العلم والحضارة، بينما أن من يعترضون هم من كانوا ومازالوا يعيشون في كهوف التخلف والانجذاب إلى الوراء لا إلى الأمام؛ فالخفافيش التي لا تعيش إلا في الظلام، من الطبيعي جداً أن تعلو أصواتها وتضطرب عندما يأتي الفجر ليخنق الليل البهيم شيئاً فشيئاً، ويصادر منها النهار قدرتها على الحركة في الظلام الدامس. ومن يقرأ تاريخنا مع التنمية، منذ الملك عبدالعزيز - رحمه الله - وحتى خادم الحرمين الملك عبدالله - حفظه الله -، يجده في وجه من وجوهه صراعاً بين دعاة التكلس والتحجر والانغلاق من جهة، و دعاة التحديث والانفتاح والاستفادة من منجزات الآخرين الحضارية من جهة أخرى؛ ورغم أن دعاة الانغلاق والتحجر والممانعة دائماً ما يعودون على أعقابهم بخفي حنين، إلا أنهم يكررون أخطاءهم بحمق وغباء لافت، ويتوارثون عن أسلافهم مواقفهم المتكلسة، التي ترفض وتمانع في البداية دون أن يكون هناك أي دليل شرعي، أو محذور أخلاقي، ليكون مصيرهم المحتوم الفشل في النهاية؛ وعندما تأتي قضية تنموية أخرى يعترضون، ويجعجعون، ويُهددون؛ وكالعادة تنتهي جعجعتهم بالتعايش مع ما كانوا يرفضونه في البداية، وهكذا دواليك! وكل ما نؤمله من سمو الأمير فيصل بن عبدالله ألا يلتفت إلى هؤلاء، ولا يأبه بمعارضاتهم؛ فهؤلاء لا قيمة حضارية لهم، فنحن طلاب تنمية وتحديث، وهم دعاة تخلف وتقوقع داخل الذات المورثة؛ المهم أن يسعى إلى تكريس هذه الحقائق على الأرض، ويعمل على تجذيرها، ودعهم يقولون ما يشاؤون؛ فكثير من قضايا الإصلاح عندما تتحول نتائجها إلى (أمر واقع) يستحيل تغييرها مستقبلاً؛ خذ مثلاً قضية تعليم المرأة، عارضها أسلاف هؤلاء، وقالوا فيها وفي أخطارها ما لم يقله الإمام مالك في الخمر، فهل يستطيع واحدٌ من هؤلاء المتكلسين الآن أن يُطالب بإلغاء تعليم البنات؟ ومرجعية هؤلاء المتكلسين، والنموذج (الحضاري) المعاصر الذي يقتدون به، هو دويلة طالبان، التي تحمل سجلاً أسوداً كالحاً في تعليم المرأة، ومشاركتها في المناشط الاجتماعية والاقتصادية؛ ولو عاد أي باحث إلى الفتاوى التي صدرت عن هذه الدويلة القادمة من (غياهب التاريخ) خلال حكمها لأفغانستان، سيتصوّر أن مُصدريها أصحابنا هؤلاء؛ فالتكلس والتخلف ملة واحدة، لا فرق بين طالبان الأفغان، وطالباننا. دعهم - يا سمو الأمير - يقولون ما يشاؤون، يُجعجعون، يشتمون، يسبون؛ ويجترون أحقادهم المرة تلو الأخرى، ويفتشون في قواميس البذاءة عن ألفاظ تشفي ضغائنهم، وتُطفئ نار هزائمهم كما يحلو لهم؛ المهم - بالنسبة لنا - ما يجري على الأرض، و(الإصرار) والمثابرة وعدم التراجع مهما كلفنا الأمر. إلى اللقاء المصدر : صحيفة الجزيرة