تعيش الكرة الأرضية هذه الأيام محفل عالمي , وعرس كروي , وتجمع كبير لايضاهيه تجمع آخر , ولا يتكرر إلا كل 4 سنوات , إنه كأس العالم , الذي يبدأ بعد الكأس السابقة مباشرة من حيث الاستعداد والترقب والتجهيزات المادية والمكانية والبشرية الهائلة التي ترصدها الدولة المضيفة للبطولة , ناهيك عن الميزانية الضخمة التي ترصدها المنظمة الراعية للبطولة ( الفيفا ) , وكانت قد قدرت الميزانية المقترحة للبطولة في عام 2006 , بمبلغ 259 مليون دولار , إلا أن هذه الميزانية ارتفعت بشكل تصاعدي هائل لتصل إلى 3,7 مليارات دولار !!!! وفي ظني أن جنوب إفريقيا ستكسب من دخل البطولة اقتصاديا وسياسيا وسياحيا أضعاف مادفعته ورصدته , وهذا ما يفسر حرص الدول وتسابقها إلى استضافة هذه البطولة وتجهيز الملفات المختلفة لنيل الفوز بتنظيم هذه البطولة رغم المصاعب والتكاليف الباهظة التي تتكبدها الدولة المضيفة . ما ذكرته في الفقرة الماضية ليس من باب صفصفة الكلام , وزيادة كلمات المقال , إنما هو أن هذه البطولة أصبحت تفرض علينا جميعا واقعا معينا , ولك أن تقلب القنوات الفضائية , والصحف الالكترونية والورقية , والمواقع المختلفة الكثيرة , وشبكات التواصل الاجتماعي ( تويتر _ الفيس بوك _ المجموعات البريدية ) وغيرها من مختلف وسائل التقنية والتكنولوجيا , أو لك أن تجلس مع أقاربئك وأصدقاءك ومن حولك , لتجد أن حديثهم ومناقشاتهم بل و انفعالاتهم لاتكاد تخلو من الحديث عن هذه الكأس ومباريتها وأحداثها المختلفة , التي أضحت تلقي بظلالها على حياتنا اليومية , بل لك أن تجلس مع أبنائك وإخوانك لتجد ذلك الكم الهائل من المعلومات والإحصائيات التي قد تستغرب كيف حصلوا عليها رغم حداثة سنهم , وفي رأيي أن من هو ملم بالتغيرات الجذرية التي حفل بها مجتمعنا في هذه السنين المتأخرة لن يستغرب أبدا , فالإعلام بكافة وسائله أصبح يتقمص دور الأب والأم والصديق في ظل غياب أصحاب الدور الحقيقي . ولايهمني هنا كثيرا نظرتنا حول هذه البطولة والتصورات التي تجول في مخيلتنا حولها , وسواء كنا مع المؤيدين أو المعارضين أو الذين لايفرق معهم كثيرا شأن هذه البطولة , يقدر ما هو أن هذه البطولة أصبحت واقعا مفروضا علينا , وأمرا مشاهدا , عيانا من خلال شاشات التلفاز والانترنت , ومقروءا من مختلف الصحف الورقية والالكترونية , ومسموعا من كافة الإذاعات العربية والعالمية , وقضية كأس العالم مثلها مثل كثير من القضايا التي قد تأخذ حيزا كبيرا وواسعا من وجهلت النظر المختلفة , وكما واسعا من الردود المتباينة , ومجالا خصبا من الأخذ والرد , ولعل خير وسيلة و أنجع طريقة وأفضل حل هو ( كيف لنا أن نستفيد من كأس العالم ؟؟؟) أو بعبارة أخرى ( كيف نحول كأس العالم لصالحنا وصالح الإسلام والمسلمين ؟؟؟) أو ( كيف نستغل هذه المناسبة لخدمة قضايانا التربوية والإسلامية وتحويرها من شيء ضدنا _ على حسب تفكير البعض _ إلى أمر يدعمنا ؟؟؟) , وفي الواقع ينبغي لنا عند النظر إلى أي قضية كانت , أن نعيد التفكير فيها , ونوازن بين المصالح والمفاسد , ونستبين أثرها ونتائجها , بكل تجرد وحيادية , ودون تأثيرات مسبقة , أو عاطفة مبالغة فيها غير منضبطة , أو تعصب غير مبرر, أو إسفاف لاعتبارات أخرى مهمة , وطبعا إذا كان هناك نص شرعي فلا يقدم عليه أي رأي كان . ولعلي من خلال النقاط التالية _ أو الخواطر _ أبث إليكم ما نفسي من خواطر مونديالية : أولا : بداية نتفق جميعا أن وقت الإنسان هو عمره الحقيقي , وأثمن مالديه , ونعمة كبرى إذا أحسنا استغلاله , وصرفناه فيما يعود علينا بالخير والمنفعة , والعمر الحقيقي للإنسان هو ما قام فيه العبد بالحقوق والواجبات المفروضة عليه وله على أتم وجه , وما أعظم خسارة الإنسان حين يفني الدقائق الذهبية من عمره في اجتياح للشهوات , واقتناص للنزوات , دون مراعاة لهذا الرصيد الغالي , وحسبك كلام الباري ( والعصر , إن الإنسان لفي خسر , إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) وكلام سيد البشر ( نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس , الصحة والفراغ ) . ثانيا : من المسائل المهمة التي ينبغي أن نلتفت إليها وننبه من حولنا عليها , مسألة "الولاء والبراء " وذلك أن الكثير من الأطفال والصغار والكبار يعجبون إلى حد العشق بلاعب معين أو ناد معين أو منتخب معين , ويظهر ذلك جليا خلال هذه الأيام في منافسات كاس العالم , فنبين لهم أن الإعجاب لابد أن لايتعدى حدود المعقول والمهارات والإمكانيات واللعب الذي يجيده اللاعب أو الفريق والحذر كل الحذر من اتخاذ الكفار قدوة في كل شيء ونبراسا يحتذى به في كافة الأمور , وطبعا لاتتم معالجة هذه الأمور إلا بالحوار الهادئ والنقاش البناء بعيدا عن الحدة والعنف . ثالثا : نعلم إن هذه البطولة يشاهدها الكثير من أبنائنا وإخواننا , وتذهب الكثير من الساعات في مشاهدة المباريات المختلفة , كذلك ماتحفل به البرامج التلفزيونية , والمواقع الإخبارية الالكترونية من كم هائل من الأحداث والأخبار والتحليلات , ولو تركنا الحبل على الغارب لهم فلربما عاد ذلك بالضرر عليهم , وهنا يتجلى دورنا في ضرورة تحقيق موازنة إيجابية في الجدول اليومي , وان لانجعل هذه الأحداث الرياضية تلتهم كل الوقت , فمثلا لو رتبنا جدولا نضع فيه مجموعة من الأنشطة ( ولعل فترة الاختبارات الحالية قد تعيق ذلك ) يتخللها مشاهدة مباراة واحدة فقط , وباقي اليوم للجلوس داخل المنزل مع الأهل , والخروج من المنزل للتسوق أو غيره , وبهذه الطريقة نكون حققنا توازن لصالحنا وصالح أبنائنا وإخواننا , ولعلي أذكر هنا تجربة قمت بها في هذا الشأن , فعندي أخ صغير في الصف الخامس الابتدائي , ورأيته يكتب في أحد الأيام الماضية مباريات اليوم ونتائجها على السبورة التعليمية داخل المنزل , وفي الحقيقة لم يسرني كثيرا هذا التعلق الزائد لمن هو في سنه , فناديته وعرضت عليه أن يكتب على السبورة أسماء 20 صحابيا من صحابة الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام , ووعدتم بمبلغ مالي إذا استطاع كتابتهم جميعا , وأعطيته متسع من الوقت , وبكل أمانة استطعت بهذه المسابقة الهادفة إشغاله بشيء مثمر , لدرجة إنه أصبح يتردد علي كثيرا يسألني عن الكثير من الصحابة والتابعين الذين لم أكن أتوقع انه يعرفهم , وأستطاع ولله الحمد كتابة العشرين صحابي دون مساعدة مني . رابعا : إذا أردنا أن نوصل فكرة معينة لشخص ما ونحن متحمسين لهذه الفكرة , فلا يكفي حماسنا واهتمامنا إن لم نبذل جهدنا في إقناعه , وجعله يقتنع حقيقة لا مجاملة أو خوف بهذه الفكرة , وقصدي هنا , إذا أردنا أن نوصل لإبنائنا وإخواننا إن الإفراط في مشاهدة المباريات والتعصب لها أمر غير صحي , فعلينا أن نحاورهم ونناقشهم ونأخذ ونعطي معهم ونسمع وجهة نظرهم , ونحذر كل الحذر من فرض الرأي , والإجبار , والعنف , الذي يؤدي إلى نتائج عكسية تفسد أكثر مما تصلح ( إن كان فيها إصلاح ) , فالإقناع وحده خير وسيلة وأنجع طريقة في هذا الزمن المتقلب , وليعلم كل من يريد فرض رأيه بالقوة والإجبار , أن العالم اليوم قرية واحدة ومجتمع واحد , ولا يتصور أي أحد أنه إذا سد باب لايستطيع أحد الوصول إليه , فإغلاق باب , يفتح 1000 نافذة قد تجلب الشر الذي أردنا البعد عنه . خامسا: أعتقد أن المثالية الزائدة التي نريد أن نغلف بها الآخرين والتوقعات الكبيرة التي نلبسها من نشاء , والآمال العظيمة التي نتوقعها سواء من أبنائنا وإخواننا وغيرهم , لن تجدي نفعا إن لم تكون هناك واقعية في التربية , وفهم للواقع , وانتباه للحاجات النفسية , والتركيز على المتغيرات التي يحفل بها عالمنا اليوم ,فكثير من الناس والمربين لايريد بتاتا أن يشاهد أبناءه المباريات , بل ويعدها جرما , وفي نظري أن السماح لهم وعدم تحميل الأمور أكثر مما تحتمل , والبعد عن النظرة السلبية للأشياء , سيحقق التوازن المطلوب , بعيدا عن الفرض القسري الذي لن يجدي نفعا في عالم اليوم أبدا . سادسا : أعجبت كثيرا وسررت بالخطوة الرائعة والرائدة والمبتكرة التي قام بها ( الندوة العالمية للشباب الإسلامي _ مكتب الدعوة والإرشاد بالروضة في الرياض ) من تجهيز برامج وفعاليات ومعارض ومنشورات سوف تقوم بعرضها الندوة العالمية للشباب الإسلامي في جنوب إفريقيا خلال فعاليات كأس العالم , وأحسنوا والله صنعا حين استغلوا هذه المناسبة الضخمة في التعريف بالإسلام والمسلمين , ويشتمل برنامج الندوة العالمية على الفعاليات التالية : • إقامة معارض ثابتة بجوار الملاعب العشرة التي تم تحديدها لإقامة المباريات عليها وتحتوي هذه المعارض على مجسمات ولوحات ضخمة للحرم المكي والمسجد النبوي والمسجد الأقصى لتعريف الجماهير بالأماكن المقدسة للمسلمين . • استئجار لافتات وشاشات عرض عملاقة في الشوارع والميادين وبجوار الملاعب التي تقام عليها البطولة للتعريف بالإسلام والحضارة الإسلامية . • توزيع كتيبات دعوية للتعريف بالإسلام وكذلك التعريف بموقفه من عدد من القضايا مثل حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والحوار مع الآخرين، وكذلك أقراص ممغنطة وبروشورات تعريفية باللغات الإنجليزية والفرنسية والأسبانية والبرتغالية سيتم توفيرها في قاعات الاستقبال في معظم الفنادق وتوزع على الفرق والجماهير بالإضافة إلى هدايا عينية رمزية مثل مشغلات mp4 والقمصان والقبعات والمظلات التي طبع عليها عناوين مواقع الندوة في الإنترنت وهي مواقع دعوية باللغات الإنجليزية والإسبانية والبرتغالية ليسهل على المهتمين من جماهير المنتخبات الاستزادة من المعلومات بشكل دائم في حال رغبتهم بذلك . وأخيرا .... في النفس خواطر كثيرة , خشيت من ذكرها خوف الإطالة عليكم وعلى وقتكم الثمين , فإن أصبت فهذا من الله وحده , وإن كان غير ذلك فعذرنا أننا بشر نصيب ونخطئ . والله المستعان . إبراهيم العمري