أهداف تدريس مواد التربية الإسلامية في التعليم العام رائعة ومبنية على أصالة وقابلية للتحقيق، ولكن نسبة عالية من المخرجات سيئة لا تمثل تلك الأهداف ولا تعكس حقيقتها في الواقع، فأين الخلل؟ الطالب ليس محل اتهام في تحمل كل المسؤولية عن عدم تحقيق أهداف ما تعلم، لأن له مصادر تلقي متعددة ومختلفة، وهو كائن حي عاقل مفكر يتأثر ويؤثر، فإذا استبعدنا الطالب من فشل تحقيق الأهداف، وجب علينا العناية بوسائلنا وإعادة النظر فيها من أجل إصلاحها، إن الخلل يكمن في نظري في الحلقة الوسطى بين الأهداف والمخرجات، فالوسيلة عاجزة عن تحقيق الأهداف في حياة المتلقين والمستفيدين، ويكفي بالسنوات الماضية مقياسًا للفشل ودافعًا لإعادة النظر في تلك الوسائل، التي أهمها المقرر ثم المعلم، فالمقرر هو الوسيلة الأهم لنقل الأهداف إلى المتلقي، وترجمتها في نصوص تربوية يتلقاها الطالب ويتفاعل معها ليمثل مخرجًا سليمًا لها. إذًا لا بد من إعادة النظر في مضمون المقررات لتقدم حلولًا لمشاكل العصر وتحدياته، وتصنع جيلًا قادرًا على مواجهة الأزمات الفكرية والعقدية الجديدة التي يعاصرها مسلم اليوم، وليست التي عاشها أجيال قبله قُدمت لهم الحلول المناسبة لمشاكل عصرهم وصنعت منهم أمة عقيدة تجاوزت بثبات التحديات التي كانوا يواجهونها. إن القرآن هو القرآن، والسنّة هي السنّة، وحلول المشاكل المتجددة فيهما قطعًا، ولكن المسؤولية تقع على عاتق قادة الفكر والعلماء المعاصرين في تقديم الوقاية والعلاج والحلول الناجحة للمشاكل المعاصرة وتحقيق أهداف التربية الإسلامية الجميلة بلغة الواقع وأسلوب العصر. إن الإمام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- نجح في دعوته لأنه اهتم بمشاكل جيله ومجتمعه وعالج بأصول ثابتة مشاكل عقدية وانحرافات فكرية قائمة في زمانه، وهي الآن في التعليم العام في مدارسنا تأخذ من مقررات التوحيد في التربية الإسلامية حيزًا كبيرًا - وهذا جيد - ولكنه على حساب معالجة انحرافات عقدية موجودة أو متوقعة تفرزها معطيات العصر ووسائله وتواصل شعوبه بالانفتاح الحادث اليوم والمتطور في المستقبل. (تعلمنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان قبل القرآن) هكذا قال الصحابة الكرام، وبهذا تخرجت شخصياتهم المتزنة. إن أساس العقيدة في توحيد الألوهية الإيمان بتوحيد الربوبية، ولذا نجد القرآن الحكيم انطلق من هذا الرصيد في قلوب الناس للإلزام بتوحيد الألوهية، وهذا أمر منطقي جدًا، ولكن إذا كان الخلل في توحيد الربوبية - وهي أزمة قائمة في العالم اليوم في العقيدة- والمقررات تكاد تخلو منه - مع نص الأهداف على ترسيخ العقيدة في نفوس الناشئة - وتتجاهله تأصيلًا وتأكيدًا بعدم استخدام معطيات العلم وما وعد الله به من الفتوح العلمية في الكون والأنفس، وهو أمر واقع اليوم، يزيد اليقين ويثبت توحيد الربوبية في القلوب ويجعل الطالب قادرًا على مواجهة بعض الفلسفات الحديثة في ذلك والتي تبتعد به عن الحقيقة. إن القرآن يقرر توحيد الربوبية ويؤكد عليه ويلفت النظر والفكر إلى ما يقويه في النفوس، ولم يهمله كما تهمله مقرراتنا مع شدة الحاجة إليه في هذا العصر، معتمدة على الفطرة التي لولا أنها لا تنحرف لما احتاج الناس إلى الرسل عليهم السلام. نجد في كتاب التوحيد المقرر أن الهدف غرس العقيدة الصحيحة في نفوس التلاميذ وهو هدف أساسي ورائع، ويبدأ في مقرر التوحيد في الصف الأول الابتدائي بتوحيد الربوبية وهذا جميل ومهم ولكن لا يعدو الأمر عبارات يحفظها الطالب ويكررها دون أن تزيد على ما فطر عليه شيئًا جديدًا يمكِّن العقيدة من قلبه ويثبت توحيد الربوبية في نفسه حتى يواجه به التحديات في المستقبل، ثم ينتهي الاهتمام بتوحيد الربوبية عند هذا الفصل الدراسي من الصف الأول الابتدائي. ولا يرجع إليه إلا في الصف الأول الثانوي بطرح يحتاج إلى اهتمام أكثر. وما بين الأوليين وما بعدهما يبدأ الطالب مشوارًا طويلًا مع توحيد الألوهية، وشيء من توحيد الأسماء والصفات، وهذا مهم جدًا، مع أن كثيرًا من الموضوعات تعالج قضايا أكثرها لا يعيشها الطالب في حياته اليومية، أو تكررها. والوقاية خير من العلاج، ونحن نريد أن تتمتع الناشئة بالوقاية والمناعة وصناعة الحماية المكتسبة التي تجعل منهم أصحاب مبادئ سامية وأفكار واعية ونقد بناء وتعايش مثمر مبني على التعارف والتعاون بمحافظة على الهوية عن قناعة وحب للآخرين ما يحبون أن يكونوا عليه من الحقيقة من غير إكراه. ولن يحصل هذا إلا ببناء المقررات التي تعنى بالعقيدة والتوحيد على الحصانة والتعزيز لليقين الفطري في القلوب، ليبقى الطالب سويًا يقبل الصحيح ويدع الزائف، ويعمل الخير ويترك الشر ويدرؤه عن بصيرة ووعي، لا عن تقليد يتحطم على صخرة الشبهات. فبناء الإيمان في النفوس وتعزيزه لا يكفي ما لم يكن عند الطالب دراية بأن الامتحان للإيمان سنة جرى بها القدر إذا اقتضى الأمر الفتنة والتمحيص والتمييز بين المدعي للإيمان والمؤمن عن وعي. }ألم، أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون{ هذا منطلق حقيقي يفرض العناية بالإيمان تأكيدًا وتثبيتًا، ووقاية وحصانة، فالإيمان الموروث عادة نشأ عليها الطالب، أو المعتمد على الامتداد الفطري الراكد في بيئة إسلامية لا تعززه ولا تعنى به وقاية وزيادة، قد يتأثر سلبًا بالمحكّات التي سيواجهها حتمًا في عالم الحياة اليوم الذي يتسم بالتداخل والتبادل وسرعة التواصل. وفي عالم المادة المحسوس كل مشروع حضاري ينشأ لخدمة المستفيدين منه ما لم يحظ بالتشييد الجيد والصيانة الدورية ينهار وتنعدم فائدته، بل ربما يفرز عواقب سلبية تأتي بالضرر على من أنشئ لأجله. وكذلك الإيمان يحتاج في قلوب الناشئة إلى البناء الجيد المعتمد على اليقينيات الشرعية والكونية التي تعززه وتقويه في القلوب، والمبثوثة في الإنسان ومن حوله، يتوصل بها إلى ربه ويتعرف من خلالها على أسمائه، وتزيده الامتحانات والشبهات ثقة بسلامة سيره في طريق الإيمان الصحيح، ويتجاوزها بثبات يورث الصلابة في التمسك بالحقيقة الإيمانية التي يجدها. وعلى هذا اقترح التالي: العناية بتوحيد الربوبية، فالإيمان بالربوبية هو المدخل إلى توحيد الألوهية، فلن يثبت توحيد الألوهية إلا على قاعدة مكينة صلبة من توحيد الربوبية، فإن من يرسخ يقينه بتفرد الله بالخلق والملك والرزق والتدبير لا بد أن يتوجه بدعائه وعبادته إليه وحده وإلا فهو التناقض البين. وقد صرح الشيخ محمد بن عبدالوهاب أن توحيد الربوبية: «هو الأصل، ولا يغلط في الإلهيّة إلا من لم يعطه حقه» وهو ما يطلق عليه توحيد المعرفة والإثبات، أو التوحيد العلمي، أو التوحيد الاعتقادي، وكل هذه التسميات لتوحيد الربوبية كافية في العناية به تعلمًا وتعرفًا على الله من خلال خلقه وذلك بتضمين المقررات ما يعزز توحيد الربوبية في القلوب، بالاستفادة من توجيهات القرآن في لفت النظر وإعمال الفكر في الكون والنفس، وهي كثيرة في نصوص الشريعة مهمل في صفحات المقررات التي بين أيدي طلابنا اليوم، والفتح العلمي اليوم تحقيق للوعد المسطر في القرآن: }سنريهم آياتنا في الأفاق وفي أنفسهم{ ومجامع الإعجاز العلمي وهيئاته تملك ثروة كافية في تزويد مناهجنا بالمقروء والمشاهد مما يخدم هذا الاتجاه ويحقق أهدافه. فيجب ألا تخلو مرحلة من مراحل التعليم العام من التأكيد عليه والعناية به بما يتناسب ومراحل النمو فيها، وإن كنت أرى أن يعتنى به أكثر في المرحلة المتوسطة بالإضافة إلى الصف الأول ثانوي في تدرج ينمو مع الطالب ويسمو بتفكيره. أسماء الله تعالى يجب أن تدرَّس برؤية تربوية أكثر من أن تكون معلومات علمية في جدل كلامي قد لا يحتاجه الطالب في حياته الإيمانية. فتدرّس معاني أسماء الله تعالى وتربط بأثرها في الحياة ليتعرف الطالب على أسماء ربه من خلال خلقه سبحانه، فيرى الله في الوجود بقلبه وفكره وعقله ووجدانه، فإذا علم أن الله تعالى في اسمه هذا يعني الإله، أي ذو الألوهية على خلقه أجمعين، وأن الإله هو المعبود، ذو الأمر المطاع، وعلم أن لله تعالى أمرين، أمرًا كونيًا، وأمرًا شرعيًا يلتقيان عند حقيقة واحدة في التنفيذ وهي التعبد والانقياد لأمر الله، لأنه الله، وربط هذا بانتظام الكون، من الذرة إلى المجرة، وتأدية كل عنصر وظائفه بما ضُمِّن من خصائص وأن }ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى{ الهداية للعبادة التي فطر عليها الكون ولن يحيد عنها إلا بأمر آخر، والهداية في سورة الفاتحة التي نسألها بما متعنا به من حرية الاختيار وكلفنا به من حسن الاختيار للننسجم مع الكون في اتجاهه إلى الله، سيدرك المتلقي عندئذ معنى الله في اسمه العظيم هذا، وأدى أثره التربوي في نفسه ورأى كل شيء على حقيقته من خلال إدراك معنى هذا الاسم الأعظم، فأيقن بالقدر وعلم أن معنى }إنا لله وإنا إليه راجعون{ هي حقيقة الألوهية التي فطر عليها الكون وتطلب من الإنسان، فيصح نظره للأشياء ويزداد يقينه. ويقال مثل هذا في اسمي الله تعالى: الرحمن الرحيم، ومع ما يحملان من معاني السعة والكثرة في تركيبهما اللفظي ودلالات اللغة، وأنهما يلتقيان عند معنى واحد هو الرحمة، وأن الجمع بينهما في أكثر من موضع في القرآن يعني زيادة تصوير في سعة رحمة الله تعالى، بما يعكس ذلك من آثار تربوية في حب الله تعالى والقرب منه. وقل بفقه وعلم مثل ذلك في أسماء الله تعالى لتتحقق التربية مع التعليم. «الرسل جاءت بما يعجز العقل عن إدراكه، ولم تأت بما يعلم العقل امتناعه» هذه العبارة الجميلة حكمة فقيه في العقيدة والشريعة قالها ابن تيمية ببصيرة نافذة ودراية واسعة بنصوص الإسلام وحقيقته، وقال في موضع آخر: «الرسل جاءت بمحارات العقول، ولم تأت بمحالات العقول» أين موضع هذا الكلام الجميل من مقرراتنا التي بين أيدي أبنائنا ويحتاجونه في فقه العقيدة وصراع الأفكار في هذه الحياة التي يعيشونها. العقل والنقل صنوان لا يتعارضان، وما يظهر من تعارض بينهما فإنما هو بين الحقيقة القطعية والظن المضل، والقرآن مليء جدًا بما يعصم العقيدة والعقل من الانخداع بالشبهة الفاتنة التي رصيدها في واقع الأمر ظن يكشف الزمان زيفه. قال الله تعالى }بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله{، }وتمت كلمة ربك صدقًا وعدلًا، لا مبدل لكلماته، وهو السميع العليم، وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون{، }وإن الظن لا يغني من الحق شيئًا{ وفي الحديث (تعرض الفتن على القلوب..) وغيره في الموضوع كثير. فأين هذه النصوص من مقرراتنا كإجراءات وقائية ضد فتن الأفكار المعارضة للعقيدة الإسلامية. إن الوقاية وتقوية المناعة ضد الأفكار المنحرفة منهج ربى القرآن أتباعه به، ويحتاج اليوم من يبرزه للطلاب من خلال ما بين أيديهم من مقررات التربية الإسلامية. التفسير بوضعه التقليدي اليوم في المقرر طريقة عفى عليها الزمن، وما يحتاجه الطلاب هو التربية على التفكير وتنمية ملكة الاستنباط، والمعرفة الشمولية من خلال دراسة التفسير دراسة موضوعية. ولنأخذ مثالًا على ذلك الماء في القرآن: }وجعلنا من الماء كل شيء حي{ وفي موضع آخر }والله خلق كل دابة من ماء{ وفي الحديث عن أبي هريرة، قال قلت يا رسول اللَّه مم خلق الخلق؟ قال «من الماء». ثم الماء في السماء، و}سلكه ينابيع في الأرض{، ودورة الماء في قول الله تعالى: }والذار يات ذروًا، فالحاملات وقرًا، فالجاريات يسرًا، فالمقسمات أمرًا{. وبهذا تتكامل المواد الدراسية، وتنمو عند الطالب عقلية ناقدة مفكرة ونظرة شمولية. وقل مثل ذلك في كثير من الآيات التي يساء فهمها فينتج عن ذلك خطأ في التطبيق لأنها بترت عن نظائرها التي تشاركها في وحدة الموضوع ولم تدرس في السياق العام للقرآن. إني أرى أن نصوص القرآن والسنة الصحيحة مكتملة ترسم منظرًا جميلًا جدًا يأسر القلب ويسر النظر ويعكس الحقيقة للكون والحياة والإنسان، ولكن هذه اللوحة الفنية العالية الجودة والإتقان مجزأة في قطع بأشكال هندسية مختلفة تحتاج إلى فطنة وذكاء وعلم لإعادة تركيبها لترى على حقيقتها إذا ركبت من جميع قطعها وتكاملت أجزاؤها، وداخل هذه اللوحة الكبيرة الجميلة مناظر صغيرة جميلة أيضًا ومتكاملة يجمعها وحدة موضوعية ولكنها مجزأة أيضًا ولكن لا ترى على حقيقتها وتكاملها حتى تركب من جميع أجزائها. بقلم / أ. حمد بن حسين الجعيدي مشرف التربية الإسلامية بإدارة التربية والتعليم بمحافظة الخرج