امتدادا لمقال سابق لي هنا ، وبعد إلحاح شديد من بعض أصدقائي وقرائي ، وبعد لحظات تفكير أدركت أنهم على حق ، فهناك جانب على قدر كبير من الأهمية لم أعره اهتماما في المقال السابق ، وهو سيكون محور هذا المقال ، ولمن لم يقرأ الأول اذكره بأنه كان يتحدث عن المريض النفسي ومعاملتنا لهم ، وأن المرض النفسي مرض ككل الأمراض ، بل أخطر منها ، لأنني كما قلت نتعامل مع روح المريض لا مع أعضائه ، ودعوني الآن أتطرق لما أريد توضيحه وهو ( ارتباط المرض النفسي بالدجل والشعوذة في مجتمعاتنا العربية بشكل عام ) ، ليت الأمر اقتصر على النظرة بل تطور إلى انحراف مفهوم وتوطينه، وأصبح تنفيذا عمليا بأن يذهب المريض النفسي إلى مستنقعات الدجل قبل أن يمر بالرقية الشرعية والطب الحديث ، هذه الأفكار والمعتقدات هي موروثات أخذناها من أجدادنا ، وأبى البعض أن يتركها ، بينما الآخر تخلى عنها لإيقانه بأن حلنا في العلم الحديث . نظرتنا للمريض النفسي تطورت نوعا ما ، بعد أن كان محرما اقترابه وعزله أصبحنا نذهب به للطبيب النفسي بالخفاء ، وأيضا نذهب به نحو " شيخ " ليقرأ عليه وهي ما تسمى الرقية الشرعية ، ولكن المصيبة التي أورثها لنا أجدادنا من جهل بالعقيدة وبالتمييز " أننا دمجنا ما بين الرقية الشرعية وما بين السحر والشعوذة " فأصبح الكثير منا يذهب بالمريض إلى أحد السحرة وكأنه شيخ فاضل ! ، ليعمل له من هذه الأعمال التي تزيد من مرضه لا تذهبه ، وسأذكر دليلا واحدا فقط من السنة النبوية لعله يصفع البعض ، فقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم : ( من ذهب إلى ساحر فصدقة لم تقبل صلاته أربعين يوما ) _ أو كما قال _ ، هذا بالتصديق فقط فما بالنا بالعمل وإتباع ما يقوله ! _ هل نعاني من أزمة مصطلحات ! ولعل هذا له حديث آخر ، فدعوني في الموضوع _ . هناك اعتقاد قوي لدى شريحة كبيرة من الناس خصوصاً المصابين باضطرابات نفسية ومن أقاربهم وأهاليهم بأن هناك قوى خفية ، سحر أو شيطان ، تسببت في إصابتهم بالمرض النفسي ، وهم يتفقون علي ذلك وكأنه حقيقة مسلم بها ، وزاد المأساة أنهم _ كما قلت _ لا يفرقون بين الرقية والدجل ، ما أعجبنا !! اختلطت علينا الرقية الشرعية والسحر لهذه الدرجة ؟! أين جيلنا المتعلم ليمارس دوره في التربية ويعلم آباءنا وأجدادنا ممن يقتنعون بهذه النظرية ، لماذا هذا التخلف التفكيري في زمن توفرت فيه المدارس والجامعات والطب الحديث ؟! هل هو الانغلاق ؟! أم هي " متلازمتنا " الدائمة التي لا حل لها عندنا ( الأحادية الفكرية ) ؟! سؤال يتبعه سؤال لحال امتنا التي أصبحت تمرض يوما بعد يوم فأني لها بالعلاج ؟ بالطب الحديث الذي يقابله التفكير الإبداعي الحداثي ؟ أم بالسحر والشعوذة الذي يقابله الانغلاق ونبذ كل جديد ؟! الغريب أن من التفنن في زيارة السحرة أصبح مرتادوه " وزبائنه " يطلقون عليه " الطب الشعبي " ! ، أعترف أنهم ممن يملكون عقليات عبقرية في تحريف المفاهيم والمصطلحات لا يضاهيهم بها احد !! وهناك إحصائية تقول أن 70% من المرضى النفسيين يزورون " الأطباء الشعبيين " قبل الطبيب النفسي وقبل حتى الرقية الشرعية _ لا اعلم مدى صحة هذه الإحصائية فقد وجدتها في مقال بإحدى المدونات المصرية تتعلق بموضوع مشابه _ ، لو كانت صحيحة فنحن متوجهين إلى داهية ! كما يقول الكاتب الجميل "أحمد خالد توفيق " . لدينا الكثير من المفاهيم المنحرفة والأمراض التي نربطها بأصول خاطئة فقط لتوارد خواطر أو لتشابه فكره وهذه مشكلتنا في العالم العربي_ لن أتحدث محليا دعوني في العالم العربي أفضل _ ومن هذه الأفكار الخاطئة : ( مرض الوسواس القهري الذي هو أحد الأمراض النفسية وقد ارتبط هذا المرض في الأذهان بوساوس الشياطين بسبب التشابه بين مسمي " الوسواس القهري " ووصف الشيطان " الوسواس الخناس " الذي ورد في القرآن الكريم من الرغم أن هذا المرض له علاقة ببعض المواد الكيميائية في المخ _ كما ورد في الدراسات الحديثة _ مثل مادة " السيروتونين " التي يتسبب اختلالها في أعراض الوسواس القهري ) . من غير اللائق أن نربط ما بين الطب النفسي والشعوذة ، فالأول يقترن بأبحاث ودراسات وله تصاريح قانونية أما الثاني فجرد كفر وشرك له عقوبة تصل للقصاص ! ألم يدرك أصحاب العقول الضيقة هذه الحقيقة ؟! أم تناسوها في ظل " الدربكة " التي نعيشها ؟! حقيقة من يتبنى نظرية المرض النفسي وارتباطه بالدجل حقا هو مريض نفسي بل مريض فكري . يحيى عمر آل زايد [email protected]