تداهمه أمواج من سواد حالك تطغي على دروبه المتعمقة في كيان نبوي .. بسيل من زبد فياض يغدق على عيالاته من رأفة وحنان .. كصلاة ناسك متعبد في محراب التوبة تتناثر دموعه خشية وندما .. يدخل غرفته يسير على قدميه تسيره روحه نحو المجهول تلتفت نحوه سكنه ومودته تلك الفتاة الكاسية من قلائد ملائكية متبتلة ، تبتسم له .. تستقبله في بشر ، فيصدها بملامح كئيبة يتعداها ببضع أقدام .. متقدما نحو شرفته .. يجلس على كرسيه وهي تصوب نحوه نظرات ملؤها سيول من دمع غزير ، ترف أهدابها الطويلة السوداء مبللة بندى ساخن على حالته التي آل إليها ، يجلس على كرسيه شارد الذهن تعزف مشاعره على قيثارة الحزن متأسفاً على تمزق دقائقه وثوانيه مع زوجته الغالية وهو بهذا الشكل التائه يضج الفكر في عقله متسائلا في ضياع ونظراتهما متلاصقتان : لا أدري ما لذي دها سلوكي العريق المتعمق في البياض ..؟ أي نائبة حلت بتلك النفس المتلبسة أوصاف الملائك ..! يا إكسير الحياة المتعمقة في أغوار دهاليزي .. أيتها المتناهية في عشق طفولتي .. لا أعلم بأي صرخة أصف لك الحالة الغريبة التي تنتابني بغتة ، وتدفعني إلى الغوص عكس التيار . صرت كنقطة عريقة تتشبث بأطراف الجنون ، أهيم في لجج الضياع نحو طريق مجهول لا أعلم خباياه .. روحي ظمأى إلى قطرة ندى من الوهم .. بلا سبب مفهوم ، ولا هدف واع .. ارتاد الطرق الملطخة بالوحل المتلبسة ستار السواد .. متجرداً من كل شي حتى روحي أريدها أن تتسلل وتهرب .. كالغارق في بحر عتي يبحث عن غبار السماء يتعلق به لينقذ نفسه من إزهاق الروح ، كل جهاتي وعبراتي تحت سيطرة المارد الآمر الغريب في تلك النفس المجبولة على العصيان والتمرد .. تتردد أصداؤه في إلحاح أن أهجر ما اعتدته وعرفته وأحببته ..وكل ما تعلقت به روحي وعشقته وجبلت عليه .. يأمرني بإخلاء دهاليزي المسفرة بفوانيس حبي وعشقي وجموحي واندفاعي إلى سراديب العتمة الخالية من كل حياة .. يأمرني بالرحيل من طوق المعرفة إلى حبال الجهل العاتية .. يسلبني من حضنك الدافئ .. إلى صقيع الشتاء القارس .. يجذبني من لحاف عطرك العبق إلى جدائل الليل المكوم بتكتلات السحاب المحتقنة بقطرات المطر المتجمدة .. ذلك المارد المتسلط الذي يهتف صوته من عمق سحيق مجهول في أعماقي ، يكبلني كلما قاومته وحاولت تجاهل أوامره المتناهية في إجحاف الانتماء ، ووصل الغيب .. يجعلني أصرخ في اختناق وأحاول الخلاص والهروب مما أنا فيه .. صار يكويني بنار حب وظيفتي ويشنقني بحبال عشقك .. ويكتم على أنفاسي بوسادة تعلقي بطفلي الحبيبين... حياتي الرتيبة المكللة بعطر الزهور والورود .. كرهتها صرت أرى كل شي قريب من نفسي بعين السواد .. تهوى نفسي الرحيل أهيم في متاهات المجهول الغامض بمصباحي الصغير ليحميني من التعثر في حجر طريقي المظلم .. كالضرير أتلمس جوانبه وأتحسس سبل العبور في خفاياه ... تقترب منه بثينة وهي واقفة عند رأسه تنخل بأناملها شعره الأسود الناعم كالحرير ، فتنساب بغزاره لتعود مرتبة كما كانت .. تنكب على رأسه تلثمه بدموع جارية .. تشد بكفها على كفه تحتمي به من غدر الزمان .. يسحب يده في ارتجاف .. يداهمه اختناق يكتم أنفاسه، يلوح برأسه يمينا وشمالا .. يخرج من الغرفة مهرولا ودموعه تتناثر حوله يصطدم بطفليه وهما يركضان حول صالة شقته الأنيقة التي رتبها بأثاث فاخر وهو بكامل صحته النفسية .. تعداهما .. لا يطيق رؤيتهما يشعر باختناق .. يهرب من الشقة كالذي يلحق به عدو .. وصوت زوجته يلاحقه في عذاب : عد .. عد .. يا حبيب القلب عد ... ماذا دهاك يا زوجي الحبيب ..؟ تضم طفليها باكية .. ثم تهفو إلى سماعة الهاتف تستنجد بأحد العائلة يلحق به .. لئلا يضر بنفسه .. يهيم على وجهه والشمس تلملم أطرافها منسحبة نحو المجهول تجذب معها كل أمل ونور ، وستار الليل يلقي سواده هنا وهناك .. يختلج قلبه مرفرفاً وهو يقترب بسيارته من موقع عمله ينظر إليه والبحر المسجور في وادي عينيه يصطلي .. تلتهب أجفانه مودعاً هذا الموقع الذي طالما أحبه وعشقه وكون حياته من خيراته وجهده .. أدار المحرك بتوتر وعصبية وهلع ، وفر هارباً من حرارة النار التي تكويه ..يلحق بقرص الشمس ويختفي حيث تختفي .. فلا يسع بثينة إلا حمل طفليها والمكوث عند أهلها تنتظر عودته من الظلام الذي سينشق يوما ليظهر رجل حياتها التي أحبته وسلبته منها الأيام . المصدر : قناة دروب الفضائية