ربما نكون من بين أكثر المجتمعات ادّعاء للخصوصية.. وأكثرها تداولاً لهذه المفردة.. بمناسبة وبلا مناسبة.. ومع هذا فلابد أننا أكثر انتهاكاً لهذه الخصوصية بتلك التدخلات السافرة في شؤون الآخرين!. (كم راتبك؟).. كم مرة باغتك مثل هذا السؤال ممن لا يحق له أن يسأله؟ وكيف وجدت شعورك وأنت تراوح بين "بجاحة الفضول"، وحرج الإفصاح عن شأن تعتقد أنه من أدق خصوصياتك؟ وأنت تعيش أدبيات مجتمع اعتاد أن يتعامل مع مسائل المادة بتحفظ شديد.. فحتى الفقير المعدم والمخنوق بغائلة الديون عندما تسأله عن أحواله؟ يجيبك على الفورمستورة والحمد لله)؛ لأن مثل هذه الأمور تدخل أو هكذا تعودنا في نطاق العورة الاجتماعية. ولن أسألك: كيف تخلصت من الإجابة حينما يكون من يسألك هو أحد الفضوليين المحترفين.. الذين يجيدون إعادة صياغة السؤال بطرق شتى إلى أن يظفروا برقم يبلّ شغاف أكبادهم المتلهفة لمعرفة هكذا أسرار!. أعرف أنك في داخلك ربما تمنيت لو ناولته كفاً ساخناً ل"تدير مسمعه"، أو نفضت يدك من مجالسته بلا سلام ولا كلام ومضيت في حال سبيلك.. لكنك ربما خجلت؛ لأنك وقعت ضحية الاستدراج بكومة من المجاملات.. فهؤلاء القوم يعرفون متى يطرحون أسئلتهم الوقحة؟! ليظفروا بالإجابة التي ستكون حتماً على كل لسان من يعرفك، ومن لا يعرفك خلال دقائق!. البحث عن الدوافع بعضهم يطرح عليك مثل هذا السؤال ليضعك فيما بعد ضمن قائمة الممولين المعتمدين لديه للحصول على السلف، أو الظفر بكفالة إن كان لك راتب يروي ظمأ الدائنين، والبعض الآخر يطرحه من باب ما يعتبر أنه حقه المشاع في معرفة ما يشاء عنك، وربما يردفه بسؤال آخر: (كم عندك؟)، ويا ويلك يا سواد ليلك إن كانت إجابتك: ما عندي شيء.. لأنه سيضربك بسؤال آخر: أجل وين يروح راتبك؟، وهنا يترتب عليك إن استسلمت لهذا الفضول البغيض.. أن تمسك بورقة وقلم - قبل أن تنفجر مرارتك- لتعدد له الأقساط التي تتكبدها والفواتير والطلبات الطارئة، أما البعض الأكثر سوءاً.. فهو ذلك الذي يسأل ليمارس هوايته في التشفي، وكلهم في المحصلة ينتمون إلى جينة الفضول.. تلك الجينة التي تجعلهم يشعرون بحقهم في الوصاية على عباد الله تحت ذرائع ومسميات مختلفة!. صيغ السؤال (كم راتبك؟)، (كم يعطونك؟)، وهي الصيغة البغيضة حقاً؛ لأنها تحمل في مضامينها شيئا من معاني العطية بلا مقابل، وكأنك مجرد ملحق بوظيفتك.. أي لا قيمة لك أمام ما يعطونك إياه، ثم (كم معاشك؟)، ثم تكر السبحة، (ما دخلت بالأسهم؟)، (كم عندك بحسابك؟)، وهكذا. معادلة ماذا تتوقع لو قلبتَ المعادلة، وطرحت عليه أنت السؤال نفسه؟ ماذا تتوقع أن تكون إجابته؟ هناك من جرب الأمر من باب مقابلة الوقاحة بمثلها.. تعرفون ماذا كانت النتيجة؟ النتيجة أن هذا ال"موكل في فضاء الله يذرعه" فر من مكانه كالمذعور لا يلوي على شيء.. فهو يريد أن يعرف عن الآخرين كل شيء حتى أدق تفاصيل حياتهم، لكنه لا يسمح لأحد بأن يقترب من حماه!. وهذه وصفة علاج جيدة ومجانية نقدمها للممتعضين من هؤلاء المنشغلين بهاجس تقليب دفاتر الناس واقتحام خصوصياتهم. مندوب ضرائب يقول أحدهم لو كنا في بلد يعتمد في اقتصاده على الضرائب لرشحت هؤلاء الفضوليين كموظفين لهيئة الضرائب، وأنا على يقين من أن أحداً لن يفلت من بين أيديهم.. خاصة إذا كانت لهم نسبة معلومة من إجمالي التحصيل.. لأنهم في الغالب الأعم ينطلقون من دوافع تبدأ وتنتهي عند المطامع، أياً كان لونها أو شكلها، أو حتى غايتها، لذلك فهم يمارسون هذا الدور بشهية مفتوحة؛ لأنه يُحاكي شيئاً ما في نفوسهم المعطوبة، ويرضي فيها غاية نفسية بعيدة.. هي أقرب للمرض الخفي المترسب في قاع النفس الدنيئة، وصولاً إلى تلك الغايات التي أشرنا إليها قبل قليل في موضع الدوافع. ما المشكلة؟ البعض الآخر من الناس يقول: ما الضير من الإجابة عن مثل هذا السؤال؟.. ولما كل هذه الحساسية من الإجابة عنه كما لو كان سراً نووياً مفزعاً لا يجوز البوح به؟ وينتقدون بالتالي أولئك الذين يلفون ويدورون فيجيبون مثلاً: (والله حول هاالخمسة أو السبعة) وهكذا، ويعتقدون أن المسألة لا تعدو كونها عقدة اجتماعية قديمة لا محل لها من الإعراب، أو أنها نزعة لمواجهة الحسد أو الشماتة، لكنهم في المقابل لا يندفعون في الإفصاح عن مداخيلهم استجابة لهذا السؤال، وإنما فقط يريدون أن يعلنوه في سياق تذمرهم من أعباء المصاريف، وعدم قدرتهم على الادّخار!.. بمعنى أنهم لا يقبلون أن يُستّلّ منهم عنوة.. لكنهم على استعداد بدافع الشفافية أن يعلنوه بملء إرادتهم، وهؤلاء لا يناهضون فكرة الرفض في قرارة نفوسهم، وإنما يريدون أن يستخدموا الإجابة فيما يبرر منطقهم، ويمنحهم العذر في تبديد تلك المداخيل.. أي أنهم يفتشون عن ذريعة لا غير. الكلام الأخير ومع احترامنا وتقديرنا لإخواننا الفضوليين هؤلاء.. ممن لا تطيب نفوسهم إلاّ بإضافة مثل هذه المعارف إلى رصيدهم.. وإرضاء ذواتهم.. فإننا نريد أن ننصفهم قليلاً.. لنسألكم "فرداً فرداً": (كم راتبك؟)، وعلى كل من يمتنع عن الإجابة.. أن يتذكر أننا نعيش زمن الشفافية! التي سبقنا إليها هؤلاء الفضوليون.