تحدثنا الإحصاءات بأن طفرة حدثت في الخدمات الصحية بالمملكة خلال الستين عاماً التي مضت . ففي عام 1950م لم يكن لدينا غير 111 طبيباً فقط لا يتجاوز عدد السعوديين منهم أصابع اليدين . وكان لدينا عدد محدود من المستشفيات في ... المدن الرئيسة بالمملكة لا يتجاوز عدد أسرتها 1000 سرير. وفي غضون نصف قرن أو يزيد قليلاً أصبح لدينا 53.000 طبيب و393 مستشفى تحتوي على 54.000 سرير أي بمعدل 22 سرير لكل 10,000 نسمة . وهو معدل مقارب للمعدل العالمي ولكنه عال قياساً بكثير من الدول النامية. تحضرني هنا بعض ذكريات طفولتي .. كانت تعتريني مثل غيري من الأطفال أمراض الطفولة. وكنت أفرح بالتهاب اللوزتين لأني كنت أحظى ببيضة مسلوقة أدفئ بها حنجرتي الملتهبة!! .. يوم كانت البيضة عزيزة المنال شأنها شأن كثير من ألوان الغذاء التي ندفعها اليوم دفعاً في حلوق أطفالنا فيأبونها. المستشفيان الرئيسان في مكة عاصمة المملكة يومذاك كانا التكية المصرية ومستشفى أجياد. لا تبرح ذهني صورة امرأة تفترش الأرض قبالة التكية المصرية ملتحفة بعباءتها السوداء وقد صفت أمامها عددا من القوارير مختلفة الأحجام والألوان (شطفت) بماء، الله وحده يعلم مدى نظافته , فأصبحت جاهزة لملئها بالدواء. نشتري القارورة بنصف قرش، ونقف في طابور أمام طبيب التكية ليكتب لكل منا وصفته. مع الأيام أصبح المستشفى هو العلامة الدالة على الرعاية الصحية . غدا جزءً أساساً من ثقافتنا الصحية. بدون المستشفى لا توجد رعاية صحية. أذكر في أثناء دراستي الميدانية في تربة أني كنت أشرح أهداف الدراسة لشيخ العشيرة. فلا يلبث الشيخ أن يقاطعني ليؤكد لي " ترى يا دكتور ديرتنا هذه أحسن مكان لبناء المستشفى" !! هذا التطور السريع عبر نصف قرن أو يزيد قليلا وصل بالرعاية الصحية إلى أطراف المملكة، وصاحب التطور الكمي تحسناً في النوع وبخاصة في المستشفيات إذ دخلت إليها التقنيات الحديثة بكل أبعادها وأصبحت الجراحة المتقدمة في القلب والأوعية الدموية والكلى والعيون وجراحة السرطان وفصل التوائم تجرى على أعلى مستوى. لكن بالرغم من هذا التطور الكمي والكيفي في الخدمات الصحية ما زالت هناك تحديات عدة تواجهنا، منها الزيادة المطردة في عدد السكان، وزيادة الطلب على الرعاية الصحية، وإشكالات سوء التوزيع , وتغير خريطة الأمراض فبعد أن كانت الأمراض المعدية هي الغالبة أصبحت الغلبة للأمراض المزمنة والحوادث. أضف إلى ذلك الارتفاع المطرد في تكلفة الرعاية الصحية. هذه المتغيرات بل قل التحديات تجعل لا مناص لدينا من أتباع أسلوب علمي في التخطيط لإنشاء وتشغيل المستشفيات. يتراوح معدل الأسرة عالمياً ما بين 014 سرير لكل 10,000نسمة في بلد مثل اليابان. و3 أسرة لكل 10,000 نسمة في بعض دول أفريقيا ( وحتى بهذا المعدل المتدني فإن توزيع الأسرة غالبا ما يكون غير عادل بين المدينة والريف) . أما المتوسط العالمي فهو 27 سرير لكل 10,000 نسمة. ولنتذكر دائما أن العبرة ليست فقط بمعدل الأسرة الى السكان وإنما أيضا – والى حد بعيد – بنوعية الخدمة المقدمة , و بعدالة توزيع الأسرة بين المدن والأرياف , وبحسن تجهيزالمستشفيات بالقوى البشرية , وحسن إدارتها , وعلاقتها بالرعاية الصحية الأولية. في العقود الأخيرة من القرن الماضي بدأ المخططون الصحيون في أنحاء العالم يتساءلون عن الأدوار التي يجب أن يقوم بها المستشفى للحفاظ على الصحة العامة في المجتمع والارتفاع بمستواها. وتمخضت عن هذه التساؤلات آراء مغايرة للمفهوم التقليدي المتعارف عليه لدور المستشفى وتكوينه وعلاقته بالمجتمع. من بين المفاهيم الجديدة التي ظهرت أول ما ظهرت في الستينات الميلادية من القرن الماضي في مقاطعة إيست أنجيليا في إنجلترا تعبير "مستشفيات بدون جدران". أي أن المستشفيات يجب أن تخرج بنشاطها إلى خارج جدرانها .. إلى المجتمع من حولها لتسهم في تطوير الوضع الصحي فيه، ولا يقتصر دورها على علاج المرضى بعد أن يصابوا بالمرض. وفي الوقت نفسه أطلقت منظمة الصحة العالمية شعارها بأن مراكز الرعاية الصحية الأولية – وليس المستشفيات- هي حجر الأساس في الرعاية الصحية. وأخيراً برز مفهوم "الرعاية الصحية المنزلية" وهو مفهوم قديم حديث , إلا أنه أتخذ شكلا محددا في السنوات الأخيرة . ساعد على ذلك التقنيات الحديثة في الاتصال . فبدلاً من أن يتكلف بعض فئات المرضى مثل المصابين بأمراض مزمنة وكبار السن والأمهات الحوامل مشقة الذهاب إلى المستشفى واحتمال تعرضهم للعدوى ( والمستشفيات من أكثر الأماكن التي يسهل فيها انتقال العدوى من المرضى الى الأصحاء ) إلى جانب التكلفة المتزايدة للعلاج في المستشفيات، هؤلاء يمكن العناية بأحدهم في منزله برعاية أفراد أسرته والزائرة الصحية المدربة. ساعدت التقنيات الحديثة على إيصال المريض في منزله بالطبيب في مستشفاه بالصوت والصورة. ومن المتوقع أن يأتي يوم ليس ببعيد تصبح فيه الرعاية الصحية المنزلية هي الأساس وليس الاستثناء. تمخض عن هذه التيارات المتلاحقة من الأفكار والرؤى تغيرات متلاحقة في تصاميم وبناء وتشغيل المستشفيات. لم يعد المستشفى المكان الذي يذهب إليه المريض لتلقي العلاج فقط وإنما أصبح جزءً من منظومة صحية تعنى بوقاية الإنسان من المرض قبل أن يصاب به، وبعلاجه إذا مرض، وبتهيئة أفراد أسرته للعناية به في منزله في فترة النقاهة وبتعزيز الصحة في المجتمع. أكثر من ذلك بدأت بعض الدول بإقفال المستشفيات الزائدة عن حاجتها والاستعاضة عنها بمراكز الرعاية الصحية الأولية والرعاية المنزلية. خلاصة القول .. أننا في خططنا الصحية يجب علينا قبل أن ننشئ المزيد من المستشفيات أن نتهيأ لذلك بدراسات مستفيضة، وأن نطرح على أنفسنا مجموعة من الأسئلة: - هل نحن في حاجة إلى إنشاء مستشفى أم إلى مزيد من مراكز الرعاية الصحية الأولية؟ - ما التوازن المطلوب بين المستشفى، ومراكز الرعاية الصحية الأولية، والرعاية المنزلية؟ - هل من الأولى أن يدير المستشفى القطاع الأهلي بعد أن توضع له معايير محددة للأداء أم تنشئها وتديرها الدولة ؟ - ما دور التأمين الصحي في توفير الرعاية الصحية؟ وما مسئولية الدولة في تغطية تكاليف التأمين الصحي لبعض شرائح المجتمع مثل كبار السن ومحدودي الدخل وذوي الاحتياجات الخاصة ؟ - هل من الأولى أن يصبح العلاج في المستشفى الحكومي مجاناً أم برسم مالي محدود مما قد يسهم قي صيانة المستشفى وتطويره؟ - هل نضع في ميزانية إنشاء المستشفى بنوداً لصيانته وتطويره لعشرين سنة قادمة أم نكتفي بالبناء والتجهيز ونترك الصيانة والتطوير لما يستجد من ظروف ؟ هذه بضعة من بين عشرات الأسئلة التي يجب أن نطرحها ونجيب عليها ونحن نخطط لإنشاء مستشفى. واضعين في أذهاننا أن المستشفيات ما هي إلا وسائل لتحقيق أهداف الرعاية الصحية. وأن من أهم أدوار المستشفى إلى جانب علاج المرضى دعم مراكز الرعاية الصحية الأولية والرعاية المنزلية وتعزيز الصحة في المجتمع .