"احذري ! .. فمعطفك أصابته قطرات من دم الجثة ". هذا ما قالته صديقتها لها ، حين كانوا في المتحف التشريحي لإحدى مواد الطب. قد انهمكوا في التشريح بيد ، وتقليب الكتاب بيدٍ أخرى. عينٌ على الجثة ، وعقل يفكر في امتحان الغد ، ودرجة امتحان الأمس ..! هزت رأسها لتطرد كل أنواع الوساوس المرعبة ، وحاولت أن تعود لجثتها .. لولا أن رائحة الجثث قد أغرقتها حد الثمالة .. قررت أن تذهب لجانب الأشعة ، لتدرس وتحلل صور الأشعة التي تبدو مشوقة أكثر من العمل مع أجساد ميتة . شاهدت ودرست ، وناقشت زميلاتها وأستاذها عن كل التحليلات الممكنة .. بعد أن انتهى وقت المتحف .. قررت الذهاب إلى المكتبة الطبية ؛ لتذاكر ما بقي من محاضرات قبل امتحان الغد ، ولم تنسَ أن تفسخ معطفها المتعتق برائحة الفورمالدهيد ، وأن تمر لتأخذ قنينة ماء تروي عطشها .. "وشيئا من جوعها" . توجهت بجسد منهك ، ويدٍ تكاد أن تنكسر من ثقل الكتب .. وهي بين كل هذا تتخيل مستقبلها ، وحياتها بين المرضى ، ورسم الابتسامة على وجوههم وقلوبهم .. بكل أحلامها .. دخلت وجلست في نفس كرسيها المعروف بالمكتبة .. أغمضت عيونها شوقا للعطاء ، ولثقة المرضى بها ، ونجاحها في عملها .. وكأن كل هذه الأحلام بلسمٌ يروي جراح الطب ، وزادٌ لأيام عصيبة حتى وقت التخرج .. بين غمرة السعادة ، أيقظها للواقع صوت صديقتها تفتح جهازها (اللاب توب) وتريها مقالاً في إحدى المنتديات المحلية ، يسب الطب ، والأطباء ، وطلبة الطب في البلاد .. ! لأنهم –وعلى حد تعبيرهم- قد "قتلوا" طفلة ..! يتهمون الطبيب المواطن بشتى التهم ، ابتداءً بعدم ثقتهم به ، وانتهاءً بعدم كفاءته وكثرة أخطائه الطبية .. قَرَأتْ المقال بصمت شديد .. ملامحها ازدادت قرباً .. وجهها كان ينذر بشيء سرعان ما وقفت من كرسيها ، ونادت صديقتها للذهاب للمستشفى الجامعي .. في طريقهم مشيا إلى المستشفى رتبت في رأسها كل الخطوات التي ستقوم بها .. بعد دقائق قليلة .. وصلت وذهبت مباشرة لقسم الجراحة والتقت باستشاري جراحة الحوادث (وهو مواطن قلبا وقالبا). شرحت له ما جرى ، وطلبت منه سيرته الذاتية (تلك السيرة التي من الأحرى أن تعلق في الجدار بإطار من ذهب) ، ونشرته في الموقع الذي تم فيه اتهام الطب في البلاد ، يعتلي الموضوع عنوان "واحد من خمسة فقط بهذا التخصص في الخليج بأكمله يحقق الإنجازات". شرحت كل إنجازاته وأدق عملياته ، وأروع قصص سطرتها أنامل ذلك الجراح العظيم. وبمثل ما فعلته مع الجراح .. قامت بذلك مع أشهر استشاريي واختصاصيي الأقسام المختلفة .. أعلنتْ سِيَرَهم الذاتية ، وكتبت عن إنجازاتهم الرائعة .. عطر الكلام أنها .. أعلنت للملأ أن أمثلة عديدة من أشهر أطباء العرب والعالم موجودون بيننا ، لكنهم بعض الشيء مهمشون ..! يعلنون في وسائل الإعلام قضية خطأ طبي ويكثرون من التفاصيل والتشهير .. ولم يفكروا أن يسلطوا الضوء - عن كثب - على الإنجازات الطبية. أخيراً أود أن أقول : إنك إن كنت تنفخ في الفحم من النقطة المشتعلة فسوف تشعل بقية الفحم ، أما إن لم ترَ سوى عدم اشتعال الفحم ، وظللت تنفخ طول عمرك في الجانب غير المشتعل ، فإنك حتماً لن تشعل شيئا ، وستبقى طول الدهر بقوى خائرة من كثرة النفخ ، وفي نفس الوقت بلا جمر ، فحكموا عقولكم .. وتذكروا .. " أن ما تركز عليه ستحصل على المزيد منه " . *طالبة في كلية طب جامعة السلطان قابوس - عمان