أصبح مشهد حرق مواطن لنفسه متكررا يوميا في الشارع العربي، وتسلط ضوء الإعلام خاصة على المنتحرين بعد الثورة التونسية التي فجرها إحراق بوعزيزي نفسه اعتراضا على إمتهانه . وقد سارع مواطنون بدول عربية لفعل الشيء نفسه رغم عظم جرمه في كل الديانات ، أملا في اندلاع ثورات مماثلة ببلادهم الغارقة في الفساد. وبعيدا عن الجوانب الدينية والإجتماعية لفكرة للإنتحار حرقا .. تكشف السطور التالية عن أصل الفكرة ومدى جدواها في شعوب تجرم دياناتها قتل النفس بأشكاله! يؤكد د.عاصم الدسوقي أستاذ التاريخ بجامعة حلوان أن إقدام الإنسان على حرق نفسه لعجزه عن توفير قوته لم تكن فكرة مطروحة في التاريخ بشكل واسع، وخاصة في منطقتنا العربية، لكنها منتشرة في أقاصي شرق آسيا كالذي حدث في اليابان حين احترقت طائرة ركاب مدنية فاعتبر الوزير نفسه مسئولا عن الحادث أديبا فانتحر عبر إحراق نفسه. ويعزو دسوقي أفعال الحرق تلك إلى يأس المواطنين من إيجاد سبل شرعية للتعبير عن أنفسهم، أو تحقيق مطالبهم الأساسية. ونسمع أحيانا أحدهم في مصر يقول وقد فاض الكيل به في منزله أو عمله : "ماذا أفعل هل تريدون أن أحرق نفسي" وهو مجرد تهديد لفظي، تحول بفعل الظلم والاستبداد واليأس إلى واقع فعلي. ويذكر الدسوقي ما قاله الرئيس السادات سابقا للمعارضة أن من حق الجميع إبداء الآراء، لكن عبر القنوات الشريعة وكان يعني بها مجلس الشعب، او التقدم بشكاوى، وبمرور الوقت اكتشف المواطنون أن هذه القنوات مسدودة ولا تفيدهم، فلجأوا إلى وسائل اكثر حدة للتعبير عن الغضب. عاصم الدسوقي أيضا لا يخلو التعبير عن الغضب بالحرق من محاكاة لما جرى في تونس على يد الشاب محمد بو عزيزي الذي مثّل الشرارة التي اندلعت منها الثورة هناك، حيث يتخيل صاحبها أنه من الممكن أن تحدث نفس التداعيات في بلده، إذا أقدم على نفس الفعل. يضيف دسوقي: إن الحرية أصبحت ثمناً يتأتى على أجساد الضحايا، مما جعل حكومات البلاد العربية تسترضي الشعوب، حتى في دول الخليج الاكثر ثراءً اكتشفنا أن هناك من يسكنون في بيوت من الصفيح، لأن القبائل تحتكر كل شئ، ولكنهم الآن ينفقون بالمليارات لتجنب الثورة الاجتماعية، التي باتت تخشاها كل الحكومات العربية، وذلك بفضل تونس التي على شعبها أن يُخلد الشاب بو عزيزي مفجر تلك الثورة. وبفضل اعتدال ووسطية بنية الشخصية المصرية يرى الدسوقي أن محاولات "الحرق" تلك لن تجدي، لأنها وسيلة مرفوضة من المجتمع الذي تراوحت سبل احتجاجاته ما بين الشكاوى وهي مرحلة سلمية، أو المظاهرات في حالة عدم الاستجابة للمطالب. وقارن أستاذ التاريخ بين أساليب الاحتجاج لدى الشعوب العربية والغرب الذي يخشى من الثورة الاجتماعية، والإضراب عن العمل فتوصلوا إلى صيغة تؤدي للتماسك، أن الذين يعملون ولا يملكون من حقهم تكوين نقابات وجمعيات اهلية شريطة أن لا تقدم على إضراب او مظاهرة دون إبلاغ السلطات المختصة، فالعمل لدى المجتمع الرأسمالي أقوى من المال، أما في الدول العربية الراسمالية تحكم ولا تريد اعترضات من أحد، فصوت المال هو الوحيد المسموع، ولذلك الدولة لا تعترف بحقوق التظاهر، مما ينشر الفوضى أثناء المظاهرات. ثورة شعب تونس وجع الكرامة يرى د.أحمد عبد الحليم عطية أستاذ الفلسفة بآداب جامعة القاهرة أن التضحية بالنفس في سبيل قيم ومثل عليا طقس إنساني عرفته البشرية منذ بدء الخليقة، وسيدنا إبراهيم عليه السلام معروف في تاريخ الإنسانية أنه أول من قدم قرباناً بشرياً لإرضاء الله، وهي فكرة موجودة في الديانات السماوية الثلاث القائمة على التضحية والقرابين لاسترضاء الإله. ومع ذلك يرى عطية أنه يخطئ من يظن أن ثورة تونس قامت من أجل "بوعزيزي" فبدونه كانت ستقوم الثورة أيضا، فهو مجرد شرارة، لكن الأوضاع في تونس كانت محتقنة وتوشك على الانفجار في أي لحظة، ولذلك من السفه ان يظن أحد أن حرقه نفسه سيحدث ثورة. ويؤكد أستاذ الفلسفة أنه يزور تونس سنويا ما بين ثلاث وأربع مرات مشيرا إلى أن تونس هي البلد العربي الوحيد الذي يتسم بفكرة المدنية التي تعني درجة عالية من الوعي، والتعليم فضلاًعن انه شعب عريق يعود إلى الفينيقيين أصحاب الحضارة. المشكلة هناك لم تكمن في غلاء الأسعار أو وجود البطالة بل الإحساس بافتقاد الكرامة، وقد بدأت الانظمة العربية تتحصن ضد هذا الفيرس أو "الثورة"، وتقوم بإجراءات وقائية من أجل منع اشتعالها مثل خفض الأسعار، وتهدئة المواطنين عبر تصريحات المسئولين التي تساهم في إثارة المواطنين بشكل أكبر، حين يعلنون أن مرتكبي أكبر الحوداث مختلين عقليا، أو أن الكوارث الكبرى مجرد حوادث عابرة لا تستحق الاهتمام!. ويرى عطية أن لكل مجتمع طبيعته الخاصة، وهكذا بدأت التجربة في تونس تؤتي بعض ثمارها، والثورات عادة يتحكم بها درجة إصرار المواطنين على مواصلة النضال والمقاومة، وهذا لن يحدث إلا بمستوى تعليم ووعي مرتفع كما قال طه حسين لأنهما يمكنان الإنسان من اختيار النظام الأمثل لحياته. فالعلم هو مفتاح التقدم الآن، ولا يزال مطلباً ملحاً للدول العربية، التي ينبغي أن تنال شعوبها حرياتهم الكاملة، وأن تكون الديمقراطية مبينة على أسس اجتماعية سليمة، بحيث يجد الناخب ما يكفيه حتى لا يضطر لبيع صوته الانتخابي ويصبح قابل للشراء.