"الفتيات المعنّفات".. انفجر بهن الصبر فهربن من منازلهن، لم يراهن المجتمع إلاّ بعين عوراء ولم يسمعهن إلاّ بأذن واحدة، ولم يكلف أحد نفسه لأن يفتح ذراعيه ويحتضن تلك القلوب المنكسرة، وبحث الأسباب التي دعتهن لتوديع منازل أسرهن بحثاً عن صدر يتسع لهمومهن المتراكمة، وتقاذفتهن هموم الحياة بمباركة مجتمعية وبتعسف وتعنت أسر رفضت تعليمهن، وأعتقدت أن الزواج هو خير حل لإنهاء همومهن.. ويكشف تحقيق "الرياض" حول هذه القضية أن أغلب الحالات التي خلف القضبان هي لفتيات لم يتعلمن وأفضلهن حالاً كانت حاصلة على شهادة المتوسطة، الأمر الذي يتطلب وقفة صادقة مع النفس ومد يد العون لمن أخطأ منهن سعياً للإصلاح قبل لعب دور الجلاد، لأنهن جزء منّا قبل أن يكن متهمات بالهروب. ورصدت "الرياض" داخل "سجن النساء" بالملز في الرياض خلال زيارتها أكثر من (21) نزيلة داخل الاصلاحية تم إيقافهن على خلفية هروبهن أو تغيبهن، وصدر أمر الإفراج عنهن، إلاّ أنهن بقين خلف الأسوار جراء رفض الأهالي لاحتضانهن مرة أخرى، أو بسبب رفض الفتاة العودة إلى منزل "جلاّدها"، ففضلت البقاء هناك لتشعر بإنسانيتها وكرامتها ولو كانت بالسجن. حرمان ويتم بدايةً قالت النزيلة "ر.س" –35عاما- بابتسامة تخفي خلفها خيبتها وألمها : أنا هنا بالسجن منذ عام ووضعي أفضل بكثير من وضعي في منزل أسرتي، وقصتي ابتدأت منذ أن كان عمري ثلاثة أعوام، حينما طلّق والدي والدتي وبقيت أنا وشقيقتي البالغة من العمر عاما بمنزل والدي ولم نر فيها والدتي إلاّ مرة واحدة طوال سنوات حياتي، فعندما بلغت من العمر (10) أعوام دخل والدي عليّ أنا وشقيقتي وطلب منّا أن نلبس ملابس للخروج في حال أردنا رؤية والدتي، فتسابقنا على دولاب الملابس نبحث عن أجمل الملابس لنرتديها للالتقاء بأم سمعنا عنها ولم نشاهدها أو شعرنا بها، وكانت قلوبنا الصغيرة تكاد أن تخرج من صدورنا شوقا لحضنها، ورائحتها التي كنا نتخيلها دوماً، مبينةً أنهما دخلتا منزل أخوالهما وهما يريان جماعات كثيرة والكل ينظر إليهما نظرة شفقة وحزن، حتى أتت امرأة لتجرها وشقيقتها لرؤية والدتهما، ذاكرةً أنها أجهشت بالبكاء ولم تستطع أن تحكي قصة ألمها لفترة. وأشارت إلى أنهما دخلتا على امرأة مغطاة بغطاء أبيض على نعش موتى، وعندما كشفوا الغطاء عن ميتة زرقاء اللون يقال لهما: "هذه أمكم أقبلوا سلموا عليها"، فما كان منها ومن شقيقتها إلاّ التراجع للخلف خوفاً من تلك الزرقاء الملفوفة بخرقة بيضاء لم يظهر منها إلاّ وجه شاحب لطخ بالبياض والزراق، موضحةً أنهما لم تقتربا وبقيت رائحتها بذاكرتهما حتى هذا الحين، يومها دخل خالهما الكبير وأبرح والدهما ضرباً لتعامله غير الانساني مع طفلتين لم تريا أمهما ولو في صورة. مفاجأة الزواج وأوضحت "ر.س" أنه بسبب ذلك المشهد المخيف فقدت شقيقتها النطق حتى يومنا هذا، وبسبب تضايق زوجة والدها منها ومن مشكلتها تلك فضلت أن تزوجها لوالدها المسن البالغ من العمر (85) عاما، مضيفةً أنها تزوجته بالفعل وهي لم تُكمل عامها ال(13)، وبعد ذلك أصبحت تعيش أجمل سنوات عمرها، فهو لم يرغب بها كزوجة بل ممرضة، ولم يمسسها، بل أبقاها وزوجته التي اعتبرتها ابنتها بحجرة بناته الصغيرات، لتتعلم هناك كيف تُصلي واحتضنتها وقت بلوغها، كذلك أوكلت إليها الاهتمام بمواعيد دواء زوجها حتى توفاه الله بعد ثمانية أعوام من زواجها منه، مؤكدةً على أنها ورثت منه ما يقارب (300) ألف ريال، لكن والدها وزوجته حرماها من ذلك، وبعد أن أكملت عدتها تُفاجأت بوالدها يدخل عليها وبيده دفتر لعقد قراني على رجل من جماعتها، وما كان منها إلاّ التوقيع مجبرة ومتأملة لتخرج من منزل أسرتها. وأضافت: بقيت مع زوجي الجديد كزوجة ثانية قرابة العامين ولم يمسسني بهما كزوجة لاكتشف فيما بعد بأنه مريض ولا يستطيع أن يكون زوجا فطلقني وطلق زوجته الأولى بعد أن تأكد من أن المشكلة فيه بعد عامين من المحاولات المستمرة بالعلاج، لأرجع مرة ثانية إلى منزل أسرتي أجر خيباتي كمطلقة وأرملة وأنا لم أكمل عامي ال(21) وبعد إنهاء عدة طلاقي، زوجني والدي لشخص "متعاطي" ففضلت البقاء تحت رحمته على أن أرجع لبيت والدي مجدداً وبقيت على ذمته (12) عاما وأنجبت منه خمسة أطفال. إهمال وضرب وقالت "ر. س": تفاقمت المشاكل بيني وبين زوجي الثالث بسبب إهماله وسكره المستمر وضربه لي، فقلت في نفسي جحيم والدي ولا جنة زوج لم يقدرني، فذهبت للمرة الثالثة إلى منزل والدي طالبة الطلاق، ومرت أشهر وأنا معلقة وأحمل في أحشائي الطفل السادس في شهري الرابع لرجل غير مبالٍ حتى حصل لي ولأسرتي حادث تأذيت منه أشد أذى، وبقيت بسببه في المستشفى عاما وشهرين، ولدت بالمستشفى ولم يعلم أهلي وزوجي، وطول فترة وجودي لم يزورني أي منهم، حتى جاء اليوم الذي دخلت فيه على امرأة كانت تزور زوجها المتوفى دماغياً، وعندما تفاجأت بأني واعية وأخبرتها قصتي لتسأل الطبيب: "لماذا يضعني بغرفة المتوفين دماغياً؟"، فقال لها: "هذه لم يزرها أحد منذ أكثر من عام وعندما كانت بالطابق العلوي كانت تبكي وتتعب في موعد كل زيارة ففضلنا جلبها في القسم الذي لا يكون فيه زيارات غالباً حتى نحافظ على معنوياتها مرتفعة"، فوكّلت تلك المرأة عني وأحضرت لي قاضيا وقف على حالي وفسخ نكاحي في زيارة واحدة من زوج لم يسأل عني وأهل تناسوني، مضيفةً: "مضت الأيام حتى خرجت مجدداً للحياة ولكن بشخصية أقوى تأبى الظلم"، مبينةً أنها سكنت عند أختها غير الشقيقة حتى يحدث الله أمراً، لكنها تضايقت منها ومن أطفالها، فعادت لأهلها ولتسكن بملحق وتلقى أسوأ معاملة من زوجات والدها، وبعد فترة عرضت عليها صديقة أن تتزوج شقيقها، لكنه كان من قبيلة أخرى، فقبلت وطلبت منها أن تجعله يتقدم لخطبتها. هروب وتغيب وأكدت على أنه فعلاً تمت خطبتها ووافق والدها لكن زوجة والدها الثالثة احتجت بسبب أنه من قبيلة مختلفة ووالدها المسن أحق بها من الغريب، مضيفةً: "فاجئني والدي بأن أجهز نفسي للزواج من والد زوجته الثالثة فرفضت وهددته بالانتحار لو حاول كسري للمرة الرابعة، ولكنه لم يأبه لتهديداتي، فهربت من منزل والدي إلى منزل صديقتي واتجهت معها إلى المحكمة لأرفع قضية على والدي، وخلال ذلك الوقت تم القبض عليها بمعية صديقتها وشقيقها الراغب بالزواج بي وطفلتي السادسة، وأحالوها للسجن بتهمة الهروب والتغيب، وعندما برأني القضاء رفضت أن أخرج إلى جلادي مرةً أخرى حتى تتزوج من شقيق صديقتها وتبدأ حياتها باختيارها. ثلاث رجال ولم تكن النزيلة "ن. س" –33 عاما- بأفضل حال من سابقتها فهي ضحية تشدد وقسوة جعلتها تبحث هاربة عن مأوى لها، فهي خلف قضبان السجون منذ عشرة أشهر لرفضها الخروج مع أسرتها بعد أن قبض عليها بتهمة الهروب والتغيب، تقول: تزوجت من ثلاثة رجال وتطلقت منهم، فزوجي الأول كان ابن عمي وأنجبت منه طفلا وبعد سنوات طلقني بسبب سحر وضع بيني وبينه، فعشت مع أسرتي خمسة أعوام أصبحوا ينظرون إليّ كمطلقة ويعاملوني أسوء معاملة، حتى انتهى الأمر بي بالزواج من مسن تجاوز -60 عاماً-، ولم يستمر زواجي معه طويلاً فقد كان كيد زوجته الأولى وبناته أكبر من طاقتي وتحملي فانعكس ذلك على معاملتي معه حتى أصبحت أنفر منه ومن قسوته وتشدده فطلقني، مضيفةً: "عندما عدت مطلقة للمرة الثانية بسبب رفضي لطليقي المسن وعدم تقبلي إياه اتهمني أشقائي بالخيانة، وأن المرأة لا ترفض الرجل إلاّ إذا كان ببالها شخص ما غير زوجها"، مبينةً أنها تحملت الألم الذي أصابها من أشقائها واتهاماتهم المستمرة حتى تقدم لخطبتها ابن خالة طليقها فزوجها أشقاؤها له بالإجبار، مما جعلها تعاني الأمرين من مدمن مخمور شكاك. وأشارت إلى أنها حاولت كثيراً أن تغيره وتتحمله ولكن جوره كان أكبر من قوتها فلجأت لأشقائها الذين رفضوا مساعدتها، ذاكرةً أنها تركته وأستأجرت لنفسها وابنها ذي الثمانية أعوام شقة بعيدة عن زوجها المخمور وأهلها بمساعدة ابن شقيقتها، لكن شقيقها الأكبر لم يقبل الوضع فبحث عنها طويلاً حتى وجدها فجاء لشقتها كفاعل خير يريد أن يعطيها من رزق الله بمعية إمام المسجد، وما أن فتحت الباب حتى تفاجأت به ينقض عليها ضرباً، مهدداً إياها بالسلاح في حال لم تخرج معه، وفعلاً خرجت لتجنب الفضائح بالرغم من محاولات إمام المسجد إثناءه عن تصرفه الأهوج. استخراج بطاقة وأكدت "ن. س" على أن معاملة أهلها لها ازدادت سوءاً لمجرد أنها استخرجت بطاقة هوية وطنية، مضيفةً أن شقيقها اقتادها لمنزله، وهو ينظر إليها نظرة سلبية، موضحةً أنه بعد فصول متكررة من الضرب المستمر والتعنيف الذي تتعرض له بلّغت الجهات المسؤولة عن العنف الأسري التي تعاونت معها وبلغت الشرطة ليتم التنسيق معها وسحبها من منزل أسرتها، وتكمل آسفة: "اطلع على المعاملة شخص من جماعتي فبلغ أشقائي بعد أن أوقف المعاملة كي لا تفضح أسرتي، على زعم أنه قدم خدمة لهم، لكن ما حصل أنهم أبرحوني ضرباً، ولم يحمني أحد منهم، حجروا علي بغرفة وحرموني من ابني؛ بحجة أنني لا أصلح لأن أكون أما له، وللأسف والدي ووالدتي مسنان ولا يعيان الحاصل، فوالدي تجاوز ال(90) عاما، ووالدتي ضعيفة أمام جبروت أشقائي"، لافتةً إلى أنه عندما سمحوا لطفلها بزيارتها أخذته وهربت به إلى الرياض، بعد أن اتفقت مع وافد من الجنسية اليمنية، تعرفت عليه في إحدى الأسواق الشعبية، واشترطت عليه أن يتزوجها فقبل بذلك!. وأضافت: جاءت الشرطة قبل أن نتزوج ونهرب، فأخذوهما بتهمة خلوة غير شرعية وهروب وتغيب، وبعد أن نظر القاضي إلى قضيتي حكم لي بالإفراج، لكن أنا لا أريد العودة إلى منزل أسرتي فبقائي هنا خير وأكرم لي من منزل يشكك في ولا يثق بي حرمني من أبسط حقوقي، وأتهموني بأشياء لا أستطيع ذكرها عندما أردت إكمال تعليمي واستخراج هوية وطنية. إثبات نسب وبنفس الأسى كانت تحكي النزيلة "خ. ف" –30 عاماً والموقوفة منذ سنة وشهر في السجون بقضية هروب وتغيب-، حيث تروي مشكلتها التي بدأت منذ طلاق والدتها التي خانت والدها فطلقها وهجرها وأطفالها –على حد قولها- فحاولت والدتها بمعية شقيقها التخلص منها ومن شقيقتها التي تصغرها عن طريق تزويجهما، فتزوجت مرتين دون رغبة منها، زوجها الأول كان يبرحها ضرباً ليلاً ونهاراً، ويعاملها بجريمة والدتها التي علم عنها الكثير، فلم تطق صبراً وتطلقت بعد أن انجبت الطفل الأول وعندما عادت لمنزل أسرتها لم تحتمل الإهانات ورغبت والدتها بتزويجها فهربت لمنزل صديقتها، وبعد عدة أيام اتجهت بنفسها لإحدى الجهات الحكومية شاكيةً لهم حالها، طالبةً المساعدة لتفاجأ بهم يحيلونها لدار الرعاية لمدة أربعة أشهر مكتفين بتعهد خطي على شقيقها وإخراجها لجلادها مرة أخرى. وعندما خرجت في اليوم الثاني زوجها شقيقها لمسن تجاوز الخمسين ولم يتجاوز عمرها آنذاك (26) عاماً، وحملت فور زواجها، ورفض زوجها فكرة حملها وحاول إقناعها بالإجهاض، لكنها رفضت ليعترف لها فيما بعد بأنه تزوجها مسيار دون علمها، وبعد أن رفضت طلقها وتلاعب بتاريخ طلاقها لتدخل في قضية أخرى وهي إثبات نسب وليدها الثاني، وبعد عدة جلسات نجحت في إثبات نسب طفلها من مسن مستهتر، لتعود معاناتها مجدداً مع أسرتها وتهرب عند صديقتها التي عرضت عليها الزواج من شقيقها فقبلت، فأقنعها شقيق صديقتها بأنه يعرف مأذونا شرعيا يعقد نكاحهما دون الحاجة لولي الأمر، فقبلت أن تسافر معه بشرط وجود صديقتها، وما أن هموا بالسفر إلاّ تم إلقاء القبض عليهم وإحالتها للسجن، وحكم عليها بالإفراج، لكنها ترفض الخروج لمنزل أسرتها التي انتزعتها من بين أحلامها وجعلتها مدانة في نظر الكثير بينما هي ضحية لشتات أسرة. العقيد د.ابن نحيت: السجن قد يولّد الإبداع من رحم المعاناة تأسف العقيد د.أيوب بن حجاب بن نحيت، المتحدث الرسمي باسم المديرية العامة للسجون لما آل إليه وضع بعض الحالات، مبيناً أن الجهل بالعلم الشرعي هو السبب وراء عدم استقبال واحتضان بعض المفرج عنهن، رغم أنها لا تعد ظاهرة. وقال: لو فهم كل ولي أمر المعنى من حديث المصطفى عليه الصلاة والسلام أن "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون"، وعاد لرشده وعفى وأصفح لكسب أجراً كبيراً، ذاكراً أن عليهم مراجعة أنفسهم قبل فوات الأوان. وأضاف: أشكر العاملات في سجون النساء على حسن معاملتهن لأخواتهن النزيلات، حيث يعملن مشكورات على تقريب وجهات النظر بين النزيلات وأسرهن من خلال الاختصاصيات النفسيات والباحثات الاجتماعيات اللاتي يفتحن ملفاً لكل نزيلة منذ دخولها الإصلاحية، وكذلك التواصل مع الأسر التي ترفض زيارة بناتهن ودعوتهم بالتي هي أحسن لإعطاء الفرصة مجدداً للنزيلة، والعفو والصفح عن الماضي. وأشار إلى أنه في الغالب تتوج هذه المحاولات بالنجاح ولله الحمد، وفي حال باءت بالفشل لا قدر الله فإن التعليمات تقتضي مخاطبة مقام إمارة المنطقة التي بدورها تحيل النزيلة المفرج عنها التي رفض ذويها استلامها إلى دار الضيافة التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية لتلقي الدعم والرعاية من قبل الدولة. وأكد على أنه من خلال خبرات طويلة في العمل في المؤسسات العقابية فإن السجن قد يولد الإبداع من رحم المعاناة، حيث شاهد العديد من النزيلات اللاتي تعلقن ببصيص الأمل فخلق لهن السعادة بعد أن حاربن في خيالاتهن اليأس؛ وذلك عندما وجدن البيئة المناسبة داخل سجون النساء لتفجير مواهبهن الإبداعية، فلم تكن تلك المعاناة عائقاً للإبداع خاصةً بمساعدة العلاملات المتخصصات، ذاكراً أنه تُعقد دورات تحت إشراف المؤسسة العامة للتدريب التقني والمهني وبالتعاون كذلك مع بعض الجمعيات التطوعية، ويُمنح لهن شهادات رسمية تمكنهن من البحث عن وظائف بعد خروجهن من السجن معتمدة من قبل المؤسسة.