مناحي الشيباني من الرياض باتوا ينتظرون الباص(الأوتوبيس) ويتسابقون إليه خوفاً من أن يتركهم أو أن لا يجدوا مكاناً للجلوس فيه، وعندما يقف الأتوبيس يصطفون في طابور آخر للنزول منه.. إنهم مواطنون سعوديون أصبحوا يشاركون المقيمين رحلاتهم اليومية دون أن يروا في ذلك حرجاً، بينما في وقت مضى كان هذا السلوك يقلل من مكانة الراكب داخل المجتمع ! لكن ما الذي أحدث هذا التغير السريع في سلوكيات هؤلاء الأفراد وكيف سينظر لهم الآخرون وهل يمثل ركوب الأتوبيس ظاهرة صحية أم مشكلة اجتماعية ؟ في تحقيقنا اليوم رصدنا بعض ملامح هذا التغير من خلال بعض الدراسات والإحصاءات التي دفعت بشريحة من المجتمع السعودي لركوب الأتوبيس. يرى الأستاذ تركي بن عبدالله السديري أن الوعي هو المنقذ من مخاطر التغير والمناعة الأولى ضد الدخول في المخاطر، وكتب في أحد مقالاته عن استخدام النقل العام في السويد"من المعلومات المذهلة أن 74% من السكان لا يستخدمون السيارات الخاصة، ولكنهم يستخدمون المواصلات العامة لتفادي ازدحامات السير ومخاطره، ولتسريع تحركات التنقل بين مكان وآخر.. لكن من يقنع عربياً بأن يذهب من حي إلى آخر بواسطة أتوبيس نقل عام.. إن أي أحد في حياتنا القديمة أو الجديدة لو شاهد رجل أعمال كبير بين ركاب النقل العام لأعلن بأنه (طاح من عينه)". وفي مصر أصبح ركوب الباص حديثاً شبه يومي للإعلام هناك، وفي تحقيق لصحيفة "الأهرام" وصفت الباصات بأنها قنبلة بيلوجية، حيث أشارت الصحيفة إلى أن المصريين أصبحوا يتزاحمون لركوبها"حاملين معهم كل شي حتى الطيور"،.هذا بالإضافة إلى تكرار جرائم النشل والاعتداء على أعراض النساء. وبما أن استخدام النقل الجماعي عند شريحة من المجتمع السعودي تعتبر اليوم من التغيرات التي يشهدها الشارع العام في السنوات الأخيرة يتساءل البعض كيف حدث هذا التغير وما أسبابه. وهل يمثل ظاهرة صحية أم مشكلة اجتماعية؟ يرى الدكتور معن خليل العمر في كتابه "التغير الاجتماعي" أن الاستجابة للتغير سواء كانت محبذة أو رافضة لا تكون واحدة دائماً في المجتمع الواحد أو في المجتمعات المختلفة بل تخضع لمؤثرات وضوابط اجتماعية وثقافية بالدرجة الأساس. مؤكدا أن الإبداع الجديد لا يجد أو يواجه نفس الموقف عند كافة المجتمعات الإنسانية أي يواجه قبولاً في أحدها بسبب عدم تعارضه مع معاييرها وقيمها الاجتماعية ويقاوم من قبل الأخرى بسبب تعارضه معا، مشيرا إلى أن المعايير والقيم الاجتماعية لديها مواقف مختلفة من الأحداث الجديدة. أحد المواطنين يتحدث ل «الرياض» عن تجربته في ركوب الباص الزيادة السكانية ستدفع بالمواطن لركوب الأوتوبيس تؤكد الدراسات الاجتماعية والسكانية في مجملها وعلى مر العصور أن الكثافة السكانية العالية من أهم الأسباب التي تدفع بالإنسان لتغيير نمط معيشته. وكشفت دراسة حديثة قامت بها إحدى شركات النقل الخاصة لمعرفة مستقبل النقل البري في المملكة والطرق التي يمكن من خلالها تفادي الزحام في شوارع المدن الرئيسية التي تشهد ارتفاعاً في المعدلات السكانية سنوياً بأن الكثافة السكانية في المملكة قد ارتفعت بنسبة 120% خلال الست سنوات الأخيرة. وتصدرت مدينة جدة نسبة الكثافة السكانية بين مدن المملكة الرئيسية بزيادة سنوية نسبتها ما بين 20 الى 28 في المئة وتلتها مكةالمكرمة بنسبة 20 الى 25 في المئة ، اما العاصمة الرياض بلغت نسبة الزيادة السنوية فيها 18 الى 20 في المئة. واشرف الدكتور علي حسن ناقور رئيس لجنة النقل البري في غرفة جدة ، على الدراسة التي قامت بها شركة نقل خاصة لمعرفة مستقبل النقل البري في المملكة والطرق التي يمكن من خلالها تفادي الزحام في شوارع المدن الرئيسية التي تشهد ارتفاعا في المعدلات السكانية سنوياً. وكانت وزارة الاقتصاد والتخطيط السعودية قد توقعت ان تصل الكثافة السكانية في المملكة الى حوالي 10 أشخاص لكل كيلومتر مربع ، وبينت ان 85% من سكان المملكة يعيشون في المدن الرئيسية. مشيرة الى ان مناطق الرياضومكةالمكرمة والمنطقة الشرقية تستأثر بما نسبته 64.5% من السكان، واعتبرت أقل المناطق كثافة سكانية في المملكة هي منطقة الحدود الشمالية، كما توقعت ان يصل عدد سكان المملكة إلى ما يقارب ال30 مليون نسمة عام 2024 . 400 ألف أسرة سعودية لا تمتلك وسيلة نقل خاصة قال مدير عام مصلحة الإحصاءات والمعلومات العامة بوزارة التخطيط والاقتصاد عبدالله العثيم إن الأسرة في مفاهيم المسح تعرّف طبقًا لأسلوب العد الفعلي بأنها فرد أو مجموعة أفراد يشتركون في المسكن والمأكل وقت البحث، ولا يشترط أن تربطهم علاقة. وأظهرت نتائج المسح أن عدد الأسر السعودية يبلغ 2.9 مليون أسرة، منها 2.51 مليون أسرة تمتلك سيارة على الأقل، ويمثلون ما نسبته 86.15% من إجمالي عدد الأسر السعودية، بواقع 59.54% تمتلك سيارة واحدة فقط.وبيَّن المسح أن 25.17% تمتلك سيارتين فقط، أما الأسر التي تمتلك 3 سيارات فأكثر فتقدر ب15.29%. الأمر الذي يثبت أن هناك أكثر من 400 ألف أسرة لا تمتلك وسيلة نقل خاصة. تلك المؤشرات في الزيادة السكانية وشدة الزحام المروري داخل المدن الكبيرة وظهور نسبة أخرى لا تمتلك سيارة بلا شك ستدفع بالكثير من المواطنين لاستخدام وسائل نقل مثل الباص في تنقلاتهم اليومية، بينما ستدفع تلك المؤشرات في الزيادة السكانية لظهور طبقة من أفراد المجتمع من ذوي الدخل المحدود والذين لا تسمح لهم مرتباتهم بشراء سيارة أو استخدام سيارات الأجرة. كيف يتعامل الناس مع الافكار الجديدة؟ بدأت الكثير من مؤسسات المجتمع وخاصة إدارات المرور ووزارة المواصلات وشركات النقل تبث رسائل توعية من خلال وسائل الإعلام تستهدف الجيل الجديد من المجتمع السعودي تهدف لترسيخ فكرة استخدام هذه الوسيلة في التنقلات اليومية، وأن ذلك يحقق هدفاً يخدم المجتمع من خلال تخفيف الزحام المروري وقله تكلفته المالية وتوفير الوقت للموظفين في تنقلاتهم اليومية، كما أن له فوائد في الحد من مخاطر البيئة. وتواجه هذه الحملات الإعلامية في بدايتها عقبات تمنع أفراد المجتمع من تقبلها لأنها لا تلائم تقاليدهم وتخدش كبرياءهم وتنظر الى أن استخدام هذه الوسائل يخص الفئة المهمشة أو العمالة الوافدة. شريحة من المجتمع تتقبل فكرة استخدام النقل العام وتدافع عنها عندما تبدأ شريحة من المجتمع بتقبل فكرة ركوب الباص فإنها سوف تقوم بالدفاع عنه بثقة، وترى هذه الفئة أنها لا تشعر بالاحتقار أو النقد بل تعتبر أنها نالت اعتباراً اجتماعياً وسمعة طيبة فضلاً عن المنفعة الذاتية، وهذا ما أكده ل"الرياض" عدد ممن ألتقتهم الصحيفة في جولتها مع ركاب الباص في تنقلاتهم اليومية. في البداية قال علي مجرشي والذي يستخدم الباص في تنقلاته اليوميه للتوفير ولأنه لا يمتلك سيارة"قدمت من منطقة الجنوب قبل عام تقريباً إلى الرياض وبحثت عن عمل ووجدته في إحدى شركات الأمن في حراسة أحد البنوك، ونظراً لضعف الراتب قررت أن أسكن مع مجموعة من الشباب لهم نفس ظروفي المادية في حي الملز وأتنقل بواسطة الباص إلى العليا حيث يوجد مقر عملي، وأحياناً أضطر للمرور بالبطحاء لأن للباصات طريق سير محدد". وعن وجه رأيه في ركوب الباص يقول"لا أجد حرجاً نظراً لظروفي المادية وعدم امتلاكي لسيارة وعلى أن أتقبل الواقع". من جانبه يقول الشاب أحمد الأسمري"ركوبي للباص سببه غلاء سبل المواصلات الأخرى خاصة سيارات الأجرة، وتكلفة استخدام سيارة الأجرة لمرة واحدة تكفيني لأسبوع من التنقلات اليومية إلى مقر عملي في إحدى المؤسسات الأهلية، واستخدم الباص في مواصلاتي للتوفير فقط وليس لتفادي الزحام ولو كنت أمتلك سيارة لما ركبت الباص". من جانبه قال عبدالرحمن القرشي "أستخدم الباص في ذهابي للعمل يومياً ولا أحب أن أركبه لكن ظروفي المادية فرضت على ذلك"، فسألته عن الذي يضايقه من ركوب الباص فأجاب"لأن الزحام داخل الباص شديد أحياناً، ورائحة الركاب مزعجة، وكثرة المدخنين تزداد، والأمر من ذلك أن غالبية من يركبون الأتوبيس من العمالة الوافدة ولا أستطيع أن أشرح لك أكثر من ذلك" ونزل عبدالرحمن عند توقف الباص وتركني في رحلتي مع بقية الركاب، ولاحظت امتعاضاً كبيرًا من مستخدمي هذه الوسيلة بسبب الزحام الشديد، والبعض ابدى انزعاجه من أسئلتي الفضولية. لاحظت مواطناً يبدو في العقد الخامس من عمره أثناء ركوبه الباص وجلست بجانبه وسألته عن سر ركوب الباص، ابتسم وقال"ما الغريب في ذلك، يستقل الكثير من السعوديين الباص وأنا أشاهدهم يومياً في تنقلاتي"، وعندما سألته عن سبب استخدامه للباص أجاب"أنا أعمل في (مبسط) بحي الديرة وأسكن في الروضة، واستقل الباص منذ سنوات في تنقلاتي اليومية لأنه يؤدي الهدف وسعره بسيط"، ثم سألته "وهل يرى السعوديون الذين يستخدمون الباص حرجاً في ذلك"، فقال "ولماذا الحرج ألم تسمع المثل(مد لحافك على قد رجليك)، أقصد أن الإنسان يتصرف على حسب مقدرته وظروفه المادية"، وعن أكثر ما يضايقه في الباص قال "الزحام الشديد وكثرة المدخنين والروائح الكريهة، وغالبية من تجلس بجانبهم لا تفهم لغتهم وأحياناً يرفضون الحديث معك، لكن لا أرى عيباً في استخدام الباص ما دام أنه يحقق لي المنفعة وأنا لا أرتكب أثماً أو جريمة تخالف الشرع". هل يخبئ المستقبل آثاراً سلبية تؤكد الدراسات الاجتماعية أن أي تغير جديد يولد مقاومة ومعارضة من شريحة من الناس، خاصة الذين يتضررون منه معنوياً أو مادياً، ومقاومة الشيء الجديد لا تعبر بسلام أو بهدوء أو بدون أضرار في قيم المجتمع. ومن الآثار السلبية المتوقعة لا سمح الله ظهور جرائم النشل أو انتقال الأمراض والضغوط النفسية وغيرها مما تخفيه تلك التغيرات، وهنا تتحمل مؤسسات المجتمع مسئولية كبيرة في مساعدة أفرادها على تقبل تلك التغيرات ممثلة بالشركات والمؤسسات المسئولة عن وسائل النقل، مثل الحرص على تحقيق الخصوصية لمستخدمي الباص، وتوفير بيئة نظيفة والحد من أخطار الحوادث والتلوث البيئي، والتغطية الأمنية لجميع مواقع تنقل الباص لكي تساعد تلك الخدمات في تخفيف مشاعر الخوف من المستقبل وما يحدث فيه من متغيرات. * الرياض السعودية