الشرق الأوسط اللندنية اعتبر كثير من المعلقين الأزمة المالية اليونانية بمثابة تطبيق عملي للغباء. مثلاً، شبّه لاري سمرز، وزير المالية السابق، الشهر الماضي، الأزمة بالحرب العالمية الأولى، التي «لا يزال المؤرخون رغم مرور قرن على وقوعها متشككين في أنها حدثت بالفعل»، إلا أن الخلاف المحتدم حول استمرار عضوية اليونان في منطقة اليورو سيأتي في نهاية الأمر بالخير إلى جميع الأطراف المعنية، وذلك أن التهديدات القاسية الصادرة عن الطرفين والصفوف المصطفة لسحب نقودها من المصارف، قد تقضي تمامًا وإلى الأبد على الهالة غير الواقعية التي صاحبت العملة الأوروبية الموحدة منذ إقرارها منذ 13 عامًا. كنت أعيش في فرنسا في يناير (كانون الثاني) 2002، عندما ظهر اليورو. وظل كثيرون ينظرون إلى اليورو وكأنه «أليس في بلاد العجائب»، حتى وقوع الأزمة اليونانية الأخيرة. والملاحظ أن الأوروبيين لم يصوتوا على العملة الجديدة، في الجزء الأكبر منهم. في الواقع، هم نادرًا ما يصوتون على أي قرار يتعلق ب«المشروع الأوروبي»، إذ تخشى النخب من أن يتخذوا ما تعتبره هي قرارا خاطئا. وهذا هو الحال مع الاستفتاء اليوناني المقرر عقده الأحد. وحتى هذه اللحظة لم يتضح ما الذي سيصوت عليه اليونانيون تحديدًا، بالنظر إلى أن كثيرا من عروض الإنقاذ جرى طرحها وسحبها. ومع ذلك يبدو أن خادمي اليورو يمقتون فكرة إجراء تصويت في اليونان حول الأمر، ويعتبرون الخطوة بمثابة خيانة من جانب رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس. أما الرسالة الضمنية التي ينطوي عليها موقف هؤلاء فهي ضرورة أن يتخذ تسيبراس موقفًا صارمًا ويفرض اتفاقا على بلاده. من جانبه، كشف تسيبراس قدرته على القيام بمناورات خادعة، لكن طرح هذه المسألة تحديدًا على الشعب اليوناني يبدو لي فكرة متعقلة، وذلك لأن هذا سيكون بمثابة تصويت ضمني على اليورو والتضحيات الضرورية للإبقاء عليه. وسيصبح لدى اليونانيين الذين يقبلون بعملية إنقاذ قاسية للإبقاء على اليورو، معرفة بالهدف الذي يعانون من أجله - وسيكون القرار بأيديهم. وإذا رفضوا الاتفاق وقرروا قتل اليورو فإن ذلك سيكون قرارهم أيضًا. كما أن المشاهد المعلنة للمعاناة اليونانية تحمل بعض الفوائد أيضًا، من حيث تدميره للتفكير الخرافي الذي صاحب ظهور اليورو. إن اليونانيين يعاينون الآن التداعيات القاسية للاقتراض المتهور. أما باقي أوروبا فتتعرف على المخاطر الأخلاقية وراء تشجيع الدول الدائنة بمختلف أرجاء أوروبا (والراديكاليين اليساريين لديها) على الاعتقاد بأن هناك مهربا من الواقع. من جانبهم، وجّه معلقون انتقادات إلى كل من ألمانيا واليونان للخلط بين الاقتصاد والأخلاق، لكن الحقيقة أن الاثنين مختلطان بالفعل. إن المال والتمويل بحاجة إلى الثقة بأن الأوراق المالية والأرقام الإلكترونية تحمل وراءها قيمة حقيقية على أرض الواقع. وعندما تتلاشى هذه الثقة تتفجر الأنظمة. ويعد الحفاظ على هذه الثقة في جزء منه مجهودا أخلاقيا. إن ما يحتاج إليه اليورو الآن هو محاولة كسب تأييد شعبي له، الأمر الذي ترددت النخب حيال القيام به حتى الآن. بوجه عام، عقدت أوروبا القليل للغاية من الاستفتاءات العامة. يذكر أن معاهدة ماستريخت التي أثمرت اليورو لم تعرض على الاستفتاء الشعبي سوى في ثلاث دول فقط. وفي فرنسا، تمت الموافقة عليها بهامش ضئيل للغاية، إذ بلغت نسبة الموافقة 51.1 في المائة. في الدنمارك، قوبلت المعاهدة بالرفض في الاستفتاء الأول، ثم تمت الموافقة عليها في تصويت جديد في العام التالي. فقط في آيرلندا، التي علمت أنها على وشك الوصول إلى اتفاق سيمول فقاعة إقراض ضخمة، جاءت نتيجة التصويت بموافقة كبيرة بنسبة 68.7 في المائة. ويعاني الاتحاد الأوروبي من نقص مشابه في الأساس الديمقراطي، ذلك أن الدستور الأوروبي المقترح طُرح للاستفتاء عليه في أربع دول فقط عام 2005. وقد قوبل بالرفض في اثنتين منها، فرنسا وهولندا، بنسبة 54.9 في المائة و61.5 في المائة على الترتيب. وبالفعل تم التخلي عن الدستور الموحد. ومع ذلك تم في خبثٍ استبدالُ معاهدة لشبونة به. وقد عرض ميثاق الوحدة هذا على الاستفتاء في دولة واحدة فقط، آيرلندا، إذ قوبل بالرفض في المرة الأولى عام 2008، ثم تمت الموافقة عليه العام التالي. ومما سبق يتضح أن الاتحاد الأوروبي لا يحظى بسجل باهر من الدعم الديمقراطي. وتصرفت النخب وكأن تلك الانتكاسات الانتخابية مجرد مؤشر على مشاعر شعبية طارئة سرعان ما سيندم عليها من أبدوها. وعليه، مضت تلك النخب قدمًا وتوسعت في مشروعها بدرجة أكبر وأعمق، حتى جاءت أزمة اليونان. خلال سنواته الأولى، اتسم اليورو بمعدل مبدئي من الفائدة منخفض، أخفى وراءه فقاعة سداد ضخمة. أما اليونانيون فقد حلا لهم التسوق ببطاقة ائتمان ألمانية، بينما تحمّل الألمان ومضوا في الطريق من أجل الوحدة الأوروبية، لكن استفزتهم فكرة اضطرارهم إلى دفع الفواتير. مع اكتمال ملامح الأزمة اليونانية الآن مع ما صاحبها من أعمال شغب وإشهار إفلاس، وتساؤلات عميقة حول كيف تريد أوروبا العيش، ومن سيتحمل تكاليف ذلك، فإن هذا الأمر قد يترك تأثيرات إيجابية على المدى الطويل، ذلك أنه سيخلق مالاً حقيقيًا لأولئك المستعدين لسداد الثمن. * خدمة: «واشنطن بوست»