الاقتصادية - السعودية لعله من باب الحكمة وبُعْد النظر أن نبدأ بالتفكير في تغيير اتجاه بوصلة سياستنا النفطية، بعد أن تبدل كثير من المعطيات. وفي اعتقادنا أن تركيزنا واهتمامنا حول موضوع الطلب العالمي على المصادر النفطية، وعدم تقديم أهمية التنويع الاقتصادي عليه، فيه شيء من طلب المهم قبل الأهم. فقد تغيرت الظروف، وأصبح نمو الطلب العالمي على مصادر الطاقة أمرا مفروغا منه. تقابله بوادر تقلص في الإمدادات النفطية خلال العقود القادمة بسبب تقدم عمر معظم الحقول التي تمد العالم بنسبة كبيرة من المصادر النفطية. وكنا قد ذكرنا في أكثر من مناسبة أن الأفضل ألا تكون نظرتنا لثروتنا الناضبة كما تنظر إليها العقول الرأسمالية "الغربية"، التي كان ولا يزال هدفها دائما عرض أكبر كمية ممكنة منها في السوق النفطية، بصرف النظر عن توقيت نضوبها ومستوى أسعارها. عملوها في الثمانينيات مع نفط بحر الشمال، وفقدوا مميزات بيعه بأسعار مرتفعة لاحقا. وتعملها أمريكا اليوم مع النفط الصخري، الذي يباع حاليا بسعر التكلفة، وأحيانا بخسارة، وقريبا سيبلغ إنتاجه الذروة. وعملتها جحافل المندفعين إلى ما كان يعرف "بالقولد رش"، في ولاية كاليفورنيا، بين أعوام 1848 و1855؛ أي أن حمى الجري وراء مناجم الذهب هناك لم تستمر أكثر من سبع سنوات، قبل أن يقضوا عليه وتصبح آثاره أطلالا. أولئك لهم نظرتهم وفلسفتهم في الحياة ومصالحهم، ونحن لنا نظرتنا ومصالحنا. هم مستقبلهم اليوم يكاد يكون مضمونا، حيث لديهم من الإمكانات البشرية والتقنية الهائلة والمصادر الطبيعية التي تغنيهم عن وجود المصادر النفطية في حال نضوبها. أما نحن، فمستقبلنا مرهون بوجود الثروة النفطية الزائلة، حتى نصل، إن شاء الله، إلى مرحلة الاكتفاء الذاتي المستقل عن الدخل النفطي، وهو على مسافة بعيدة منا اليوم؛ إذ لا يلوح لنا في الأفق القريب أو البعيد ما يشير إلى أمل تطور ملحوظ في مجهودنا لتنويع الدخل. فقد مضى علينا أكثر من 40 عامًا ونحن نبذل ما في وسعنا من التخطيط والجهد لتحقيق هذا الهدف، دون الحصول على أي نتيجة مقبولة. ولكن الأمل في الله وارد، فالعهد الجديد يبشر إن شاء الله بالخير. وتطوير سياستنا الحالية لمصلحة المستقبل، تعني لنا أن نتخلى عن البروز كأكبر منتج للنفط في العالم. فهذه صفة أطلقها علينا الإعلام العالمي، ظنًّا منهم أننا سعيدون باستنزاف ثروتنا الناضبة، وأننا دوما نبحث عن مزيد من الطلب على بضاعتنا النافقة، كما لو كانوا أنفسهم في موقعنا. ولم يطر في مخيلتهم أننا شعوب غير منتجة وعلى بركة الله، بل مستهلكة بامتياز. وأننا من دون الدخل النفطي سيصبح مصير مستقبلنا على ظهر هذه الصحاري في عالم المجهول، أو هو أقرب إلى الكارثة الإنسانية لا قدر الله. ونحن صدقنا تلك المقولة، وأصبحت بالنسبة لنا مبعثا للفخر، على الرغم من أن الإنتاج النفطي لا يتطلب منا مجهودًا يُذكر، ولا هناك ما يدعو إلى الفخر. المدخول النفطي اليوم يكوِّن أكثر من 90 في المائة من الميزانية العامة للدولة. وليس، بطبيعة الحال، لمعظم أفراد المجتمع أي دور أو مجهود فيه. جميع شعوب العالم تكدح وتعمل بكامل طاقاتها لتوفير العيش الكريم، كل ذلك من عرق الجبين. أما نحن، شعوب الخليج الله يحفظهم، فأكبر طموحنا استقدام أعداد هائلة من العمالة الأجنبية لتريحنا من الأعمال الشاقة. ولا ندرك أن الاعتماد على غير مجهود أبناء الوطن هو إنهاك للاقتصاد، وقتل للهمم، ومدعاة للخمول البدني والعقلي. ولكن تغيير الاتجاه العام من مبدأ الطلب أولا، إلى الاهتمام بالمستقبل، يحتاج إلى اتخاذ قرار صعب، وإلى رؤية ثاقبة، واقتناع تام بأن الطلب على المصادر النفطية سيظل سيد الموقف خلال العقود القادمة، مهما طرأ على الساحة الدولية من تحسن في الأداء وتقشف في الاستهلاك. وأنه لا أساس من الصحة لما يروجه الإعلام من احتمال الاستغناء عن المشتقات النفطية خلال المستقبل المنظور أو التقليل من أهميتها، لسبب بسيط، وهو أن العالم سيعاني نقصا حادا في مصادر الطاقة بأشكالها وألوانها بعد أقل من عقدين. وبطبيعة الحال، فإن الحفاظ على مستوى أدنى لإنتاجنا رغبة منا، فسيؤثر في بادئ الأمر على دخل الميزانية. وهنا يأتي دور الحكمة واتخاذ القرارات المصيرية المناسبة التي تتطلب، من بين اختيارات كثيرة، الاستغناء عن نسبة كبيرة من المستقدمين، وعلى وجه الخصوص الذين وجودهم الآن نعتبره عالة على اقتصادنا، من الفئات التي تبيع وتشتري لحسابها على حسابنا. وهو قرار يتحتم علينا اتخاذه إن عاجلا أم آجلا. فهذا الدخل الكبير لن يدوم طويلا ونحن ننزف من مصادر غير مستدامة، ونبالغ في ذلك. ومما لا يدع مجالا للشك، أن أي خطوة نتخذها في هذا المجال، وهو التخلي عن دور قيادة السوق النفطية لمصلحة مستقبلنا، سيسبب بعض الإرباك غير المقصود، ولكن الأمور ستعود إلى طبيعتها، وتتأقلم مع الوضع الجديد. وسنظل نحن، كما كنا، عنصرا إيجابيا في المحافل الدولية، مع تركيزنا على ضمان مستقبل واعد لأجيالنا.