غالباً ما تُعبِّر الجهات الرسمية وغير الرسمية من وسائل الإعلام، بعد صدور الميزانية الجديدة، عن مجموع الدخل العام من الناتج القومي ومن مبيعات النفط ومشتقاته على أنه الناتج المحلي. ونحن لسنا مُتخصصين في الأمور الاقتصادية ولا نفقه كثيراً في مصطلحاتها، ولكن يستعصي علينا قبول منطق أن دخلنا من النفط هو جزء من الناتج المحلي. فحسب فهمنا المتواضع أن الناتج المحلي مرتبط بالمجهود البشري كالمنتجات الصناعية والخدمات، ولا يصح أن نعتبر المال الذي نحصل عليه من بيع النفط بدون أي مجهود يُذكر هو ضمن الناتج المحلي. وما الفرق إذاً بين أن نفتح صنابير آبار النفط وندفع به إلى الأسواق الدولية ونحصل على قيمته وبين أن نتلقى، لا سمح الله، مساعدة نقدية من الخارج؟ هل يسوغ لنا أن نحسب مثل تلك الهبة من الناتج المحلي؟ فرفع مستوى الناتج المحلي لأي دولة يكون مدعاة للفخر لمواطني تلك الدولة، لأن ذلك بالنسبة لهم يعني أنهم قد تمكنوا بمجهودهم الخاص وإبداعهم من تحسين الإنتاجية ورفع مستوى الكفاءة في أعمالهم، وهو شرف لا نستحقه ما دمنا أقل إنتاجية من أي شعب من شعوب الأرض. ونسبة كبيرة من دخلنا من الخدمات والمنتجات الصناعية لا تمثل مجهودنا المتواضع ما دام معظم العاملين في المرافق الصناعية والخدمية التي يملكها ويديرها القطاع الخاص هم من غير أبناء الوطن. فلنسم دخل النفط ما نشاء إلا يكون ناتجاً محلياًّ، حتى لا يأخذنا الغرور ونظن أننا أمة مُنتجة، وهو ما يُخالف الواقع، فنحن بطبيعة الحال وبكل جدارة أمة مُستهلِكة. وحسب المنطق نفسه، فليس من المناسب أن نُسمِّي زيادة دخلنا من القطاع النفطي نموا في الناتج القومي. وبالمناسبة، فقد استقبل الكثيرون من أبناء الوطن بالفرح وبشيء من التفاؤل الحجم التاريخي للميزانية الجديدة، أملاً في أن تُسهم هذه الميزانية المباركة في التركيز على استراتيجيات المستقبل، كالتعليم الفني والدراسات التجريبية وبحوث مصادر الطاقة المتجددة وتطوير تقنية تحلية المياه. ومع حبنا لزيادة الخير إلا أننا يجب أن ندرك أن أي زيادة في دخل النفط اليوم لا فخر لنا فيها، وأنه سوف يقابلها نقص في دخل أعوام مقبلة. وقد تزيدنا كثرة المال اتكالاً على الآخرين في معظم شؤون حياتنا، كما هي حالنا اليوم. ونحن نود أن تكون أولوياتنا تتجه نحو التركيز بالدرجة الأولى على تنمية العنصر البشري من أجل إيجاد جيل جديد يتولى أمور مستقبله بنفسه عن طريق العمل الجاد والإبداع المثمر، وهذا لا يتأتى مع زيادة الرفاهية والإسراف في المأكل والمشرب والملبس وتوفير المال وجلب الخدم. نحن بحاجة إلى إجراء دراسات عميقة لأسباب عزوف الكثيرين من أبنائنا عن قبول ممارسة الأعمال الفنية والمهنية والإنشائية التي يُسيطر عليها الآن العنصر الأجنبي، ثم إيجاد الحلول المناسبة لها. ومن المؤكد أنه لا يخفى على ذي بصيرة أن المستوى المتدني للمكافآت الشهرية التي يُقدمها القطاع الخاص للمواطن لا تتناسب على الإطلاق مع مستوى المعيشة في بلادنا، وهو عامل جوهري في معادلة قبول الأعمال الشاقة مِن عدمه. وفي الوقت نفسه، نجد أن القطاع الخاص والشركات المحلية تُمنح لهم الكثير من التسهيلات لاستقدام ما يشاءون من العمالة الأجنبية الرخيصة، التي مآلها أن تُصبح عالة على اقتصادنا الوطني. ولعل أكثر أثر يترك بصماته على ميول وتصرفات أولادنا وتوجهاتهم وطموحهم في حياتهم العامة هي بدون شك طرق التربية التي نمارسها معهم. فنحن نعودهم منذ الصغر على الاتكالية والاعتماد على الخدم، بدلا من رفع معنوياتهم وحثهم على خدمة أنفسهم بأنفسهم. ونرى أنه من الضروري إجراء تعديل جوهري في المناهج الدراسية في جميع مراحلها، بحيث تشمل بعض المبادئ عن الأعمال الحرفية والمهنية وتغيير العقلية التراثية التي توحي لنا بأننا فوق الجميع ولا يصح أن نقوم بأعمال معينة ما دام بإمكاننا استقدام منْ يقومون بها، وإن كان ذلك يضر باقتصادنا وبمستقبل أولادنا. ومن المؤكد أننا سنشاهد تضخما أكبر في الميزانيات العامة من دخل النفط خلال السنوات القليلة القادمة، نتيجة للارتفاع المتوقع في أسعار مصادر الطاقة واحتمال زيادة الإنتاج النفطي لتلبية الطلب العالمي المتزايد. وهنا تبرز الحاجة المُلحة إلى الحكمة في تصريف المال العام على الأوجه التي تخدم مستقبل أجيالنا، وألا يكون ذلك في صالح الغني على حساب الفقير. وكفانا ما نحن فيه من حب للمظاهر والتفنن في الإسراف، بينما الكثيرون من حولنا، داخل وخارج الوطن، يتضورون جوعا ويُنغِّص حياتهم العوز الشديد. ولذلك فهناك منْ ينعتوننا بالدول النفطية، وهي كناية عن امتلاكنا ثروات هائلة، ويتوقعون منا إشراكهم معنا وتقاسم ثرواتنا "المؤقتة" معهم بسبب ما يشاهدونه من تصرفات البعض منا غير المقبولة بأموالهم نهاراً جهاراً. فهل من المعقول أو المقبول، إن صح الخبر الذي تداوله الإعلام أخيرا، أن تصرف إحدى الجهات في منطقة الخليج ما يُقارب 40 مليون ريال على شجرة عيد الميلاد، وهي ليست من مناسباتنا الإسلامية ولا الوطنية؟ فكم من مسجد ومركز اجتماعي يمكن أن نقوم بإنشائه بهذا الكم الكبير من المال في أحد بلدان إفريقيا الفقيرة على سبيل المثال؟ وما الفرق في الأجر من الله بين ذلك وذاك؟ نحن نعلم أن عواصم الدول المسيحية نفسها لا تصرف ولا 1 في المائة من هذا المبلغ الخيالي على شجرة عيد الميلاد، التي يعتبرونها بالنسبة لهم رمزاً من رموزهم الدينية العريقة. وعجلة الإسراف والتبذير في بلداننا الخليجية تسير بنا من موقع إلى آخر، ليس أقلها ولا آخرها موسم الاحتفال بمزايين الإبل ومواسم الحفلات والاحتفالات وما يُرافق ذلك من البذخ الممقوت. ثم تليها المباهاة بشراء أفخم أنواع المركبات في العالم والتنقل بها بكل زهو وكبرياء أمام أعين الشعوب الأخرى في المدن الأوروبية. وهناك فئة من مواطني الدول الخليجية كافة يتنافسون على اقتناء أرقام المركبات والتليفونات المميزة ويدفعون لها مبالغ خيالية. كل هذه الأمور تُسلط علينا الأضواء وتُعطي الآخرين مجالاً للانتقاد حيناً وللاستجداء حيناً آخر. ومعظم أولئك لا يدركون أننا وبحسن نية نستعجل نضوب ثرواتنا المحدودة. ونحن نخشى أن نعود في يوم ما، لا قدر الله، لنستجدي من القليل الذي لديهم. نقلا عن الاقتصادية