الشروق المصرية استقالة وزير العدل عنوان أزمة وليست الأزمة نفسها. تصريحاته عن عدم أحقية أولاد الأسر الفقيرة، التى توفر بالكاد أبسط متطلبات الحياة، فى الالتحاق بالقضاء استدعت خروجه من منصبه الوزارى لتهدئة الرأى العام الغاضب. التصريحات تنتهك أية قيمة دستورية وإنسانية وسياسية لكنها ليست تغريدا خارج السرب ولا مجرد زلة لسان. فهو تحدث باسم ما هو مستقر ومعتمد فى الالتحاق بالهيئات القضائية وهيئات أخرى على ذات القدر من الحساسية والنفوذ. افتقد كلامه أى حس سياسى، شأن الأغلبية الساحقة من الوزراء الحاليين، لكنه كشف عمق الأزمة التى تنخر فى بنية المجتمع. النظر بدونية إلى الفئات الأكثر فقرا من تبعات التهميش الذى تعرضوا له على مدى أربعين سنة متصلة. كل حراك اجتماعى تجمد وكل أمل فى الصعود توقف. القضية ليست استبدال وزير بآخر، فلا شىء بعد ذلك سوف يتغير إذا لم نقر بأصل الأزمة ونسعى لمواجهتها لا البحث عن أكباش فداء جديدة. الوزير المستقيل يعترف أن والده لم يحصل على قسط وافر من التعليم لكنه نجح فى تعليم أولاده وأن يصبح من بينهم وزير، وهذا يشرفه بيقين. أغلبية القضاة ينتسبون إلى أوضاع اجتماعية مشابهة ولا يقلل ذلك من جلال مناصبهم. إذا ما طبقنا الشروط الحالية للالتحاق بالنيابة العامة على كبار القضاة، ومن بينهم الوزير المستقيل، لما أمكن أن يصعدوا ذات يوم إلى منصاتهم العالية. من بين هذه الشروط أن يكون والدهم حاصلا على مؤهل عال. هذا شرط متعسف لا ينطبق على كل من تولوا رئاسة الجمهورية بعد ثورة يوليو(1952). لا يعقل أن تكون مواصفات «معاون النيابة» أهم من اشتراطات «رئيس الدولة». إذا كان هناك شىء من الاتساق مع الأسباب التى استدعت خروج الوزير فإن العشرات الذين استبعدوا من النيابة العامة لعدم حصول أبائهم على مؤهلات عليا لابد من إنصافهم. هناك فارق بين اتساق السياسات وادعاء الغضب. فى الاتساق مراجعة لأصل الأزمة والوقوف على أسبابها.. وفى الادعاء مجاراة للرأى العام بغير اقتناع ولا همة. التمييز فصل عنصرى مباشر وحكم بالحرمان من أى تطلع لترقى اجتماعى مهما اجتهد المجتهدون. قصة التمييز الاجتماعى لها تاريخ طويل مأساوى فى مصر. هذا هو الموضوع الحقيقى للأزمة التى كانت تصريحات الوزير المستقيل محض إشارة إليها. فى أعقاب التصريحات المستفزة تبدت قوة الرأى العام وتأكد مجددا أن مصر تغيرت بعمق، فلم يعد مقبولا ولا مستساغا الحديث بهذا اللغة المتعالية عن بسطاء مواطنيها. الأزمة الحقيقية فى السياسات المتبعة. تطل من جديد على المشهد المصرى الاقتصادى السياسات نفسها التى أفضت إلى «يناير»، كأن التضحيات بلا ثمن والوعود بلا عائد. نحن بعيدون تماما عن أى حراك اجتماعى محتمل ولا توجد فلسفة اجتماعية لنظام الحكم الجديد تؤشر أننا على بداية طريق يصحح آثام الماضى. التعليم نقطة البدء الحقيقية لأى حراك اجتماعى محتمل والنظام الاجتماعى صلب أى حديث عن تكافؤ الفرص. لا يمكن فى ظل منظومة التعليم الحالية ومستوياتها أن يتقدم أولاد بسطاء الفلاحين وعامة العمال والموظفين إلى الأمام خطوة واحدة، فما يحوزونه من علم لا يليق بالعصر ومتطلباته. المعنى أن أبناء الأسر الميسورة التى تحظى بتعليم أفضل فى مدارس وجامعات خاصة وأجنبية تحتكر كل فرص سوق العمل فى الداخل والخارج معا وتترك لأبناء الأسر الفقيرة فتات الوظائف الهامشية. فإذا ما اجتهدوا فإن روح الاستعلاء تتكفل باستبعادهم، كأن لا حق لهم فى هذا البلد أو أنهم عالة عليه. عبارة الوزير المستقيل موحية تماما: «ابن الزبال لا يدخل القضاء». اختيار هذه المهنة بالذات استهدفت تحقير كل من هو فقير ومكافح يحصل على رزقه من عرق يده. كل من لا سند اجتماعيا له مستبعد فى كل حساب رغم أن قاعدة التأييد الرئيسية للنظام الحالى هم هؤلاء بالذات. إذا لم تكن هناك فلسفة اجتماعية جديدة تلتزم القيم الدستورية فى حفظ حقوق المواطنين، فإننا مقدمون على أزمة كبرى يصعب توقع من أين تهب وإلى أين تصل؟ رياح الظلم أقوى من أن يصدها أحد. بتلخيص ما التمييز فى الوظائف ضد أبناء الأسر الفقيرة يرادف تأميم الحراك الاجتماعى ومنع أى إصلاح فى بنية مؤسسات الدولة. لا يصلح فى مواجهة أزمة جوهرية من هذا النوع بعض عبارات الإنشاء السياسى التى تؤكد احترام أصحاب المهن البسيطة وكل من يعمل بشرف دون اثباتات تصدق القول. أزمة التمييز الاجتماعى سوف تعيد طرح نفسها من وقت لآخر بعناوين جديدة تسحب من شرعية الحاضر وتضع المستقبل بين قوسين كبيرين. تنحية القيم الدستورية فى العدل الاجتماعى أزمة مكتومة لكنها منذرة بأخطر من أى توقع وبأسرع من كل حساب. القضية أن تكون الرؤى واضحة والانحيازات معلنة. كما أنها تستدعى إعادة نظر جذرية فى طريقة اختيار الوزراء. عند تشكيل حكومة الدكتور «عاطف عبيد» قال عميد الاقتصاديين المصريين المفكر والوزير الراحل الدكتور «إسماعيل صبرى عبدالله»: «لا أعرف من أين يأتون بهؤلاء الوزراء؟». لم يكن مقتنعا بطريقة الاختيار ولا بخلفيات الوزراء رغم أن خياراتها معلنة فى بيع وحدات القطاع العام أو المضى ب«الخصخصة» إلى آخر مداها. وكان الحصاد كارثيا. السؤال نفسه يستحق أن يطرح بعد ثورتين دعت الأولى (يناير) إلى نظام سياسى جديد يلتحق بعصره وطلبت الثانية (يونيو) دولة مدنية ديمقراطية حديثة تستحقها مصر. لا الأولى بنت نظامها وفق أهدافها ولا الثانية حققت دولتها حسب دستورها. أسوأ ما يعرض على الرأى العام أن تلخص الأزمات فى الوزراء وحدهم مع إعفاء السياسة العامة من أى مسئولية. بلا فلسفة حكم تضبط الأداء العام فإن الأخطاء ذاتها سوف تتكرر بغض النظر عن أسماء الوزراء ومستويات كفاءاتهم. فى أى تجربة يعتد بها فإن سلامة الاختيارات تتطلب أن يأتى إلى المنصب الوزارى من يستطيع أن يدير بكفاءة السياسات العامة التى يكلف بها، أن يكون مقتنعا بهذه السياسات ومتحمسا لها. المعنى أن يكون الوزير سياسيا لا موظفا، شريكا فى المسئولية يختلف ويتفق وفق قناعاته لا منفذا لأية تعليمات مهما تصادمت مع المصالح العليا لبلده والسياسات التى اختير على أساسها. نريد أن نرى وزيرا يستقيل لأسباب سياسية لا لأنه قد طلب منه أن يستقيل. غير أن مصر تبدو بعيدة، رغم نصوص دستورها، عن أية حكومة سياسية تعلن برامجها وتحوز ثقة البرلمان قبل أن تحاسب على أساسها. إذا لم يرد اعتبار السياسة فى هذا البلد فإن القدرة على مواجهة ضغوط التحديات سوف تتقوض بالكامل