الاقتصادية - السعودية .. ميدان حرب حقيقية ولكن لا تسفك فيها الدماء. السر في سحر لعبة الشطرنج يتوقف كثيرا على المآزق الحرجة، ومواقف التهديد في ساحة قتالية حقيقية، ولكنها ساحة تسمو بها الرياضة العقلية ليعمل عقلك على التدبير ورسم الخطط الذي يجب أن تتفوق فيها على ذكاء خصمك الذي بدوره، ومن حقه، أن يجندل فيها جندك ويسقط ملكك، لماذا؟ لأن هذا بالضبط الذي يدور بذهنك أنت.. ومن حقك. إذا كانت هناك لعبة وحيدة في العالم لا دخل للحظ بها ولا للصدف فهي الشطرنج. فإذا خسر اللاعب وتساقط جنده وهزم فلا يلومن إلا نفسه. ولهذا السبب بالذات يندر أن يتحدث اللاعبان، وإن أحببتم الخصمان، مع بعضهما؛ فكل خصم غارق في رسم الخطط وتصور النتائج "مسبقا" في مخيلته الذهنية البحتة، وبخبرته وممارسته حتى يطيح بالآخر. وإن كانا لا يتحدثان باللسان، ولكن هناك عاصفة من الحوار بين ذهنيهما.. لأن أهم استراتيجية في لعبة الشطرنج هي محاولة قراءة ما يدور في ذهن الآخر من خطط حتى يستبق حدوثها، أو يضع الخطط الدفاعية التي تجعله يتأهب للمباغتة الهجومية. فلا تعجب إن رأيت لاعبا محترفا ومتمرسا يمضي الوقت قبل لقاء خصمه بالتعرف على شخصيته، وعلى صلابته النفسية، وعلى مزاجه، وعلى سلوكياته، ومقدار ضبطه لأعصابه، لأن من مقومات اللعبة أحيانا اللعب على تركيبة ومزاج الخصم فوق تحريك الأحجار على الرقعة التي تجري عليها المعركة. إن التركيز العقلي العصبي والسلوكي أمر مهم استراتيجيا لوضع التكتيكات أثناء المعركة. الشطرنج حرب مصلحة بلا شك. والمصلحة إن لم تكن أكثر نتائجها هي الانتصار والفوز، فماذا تكون إذن؟ إن الشطرنج صراع وقتال حقيقيان ينتصر فيهما العقل الأقوى، الأقوى ليس فقط ذكاء، بل جدية ومثابرة واستطلاعا كاشفا لمستقبل كل خطوة تتخذ من طرفي الخصم. والعرب وأنا أقول هذا من مراجع ثابتة ومسجلة هم من أبرع الأمم في عصورهم الزاهرة نبوغا في الشطرنج.. فالعالم الفقية الإمام الشافعي يقول: "إنه-أي الشطرنج- تمرين للذهن وترفيه عنه". انتقلت لعبة الشطرنج من الهند إلى فارس ثم إلى العرب بعد الفتح الإسلامي. والعرب هم من نقل الشطرنج إلى أوروبا بعد أن فتحوا جنوب إسبانيا ومن هناك انتشرت اللعبة لبقية أوروبا. وأرجوكم مراجعة تاريخ تطور الشطرنج في المراجع الغربية التي ستقول لنا إن العرب لم ينقلوا الشطرنج من الهند وفارس كما هي على حالها، بل هذبوها ونظموها على رقعتها وهيئتها التي بين أيادينا اليوم. وانظر على سبيل المثال مخطوطة "الفونس" في كتابه "الألعاب" فهو يقول إن الشطرنج دخلت أوروبا في عام 1008. ولم يكتف صاحبنا الفونس بهذا بل إن في مخطوطه صورة رقعة شطرنج وحولها عرب يلعبون. وعلى فكرة، هذا المخطوط محفوظ في مكتبة الأسكوربال من القرن ال 13 ميلادي. وفيكم أيها القراء حصافة وفطنة ولن أشرح. حصافتكم وفطنتكم وذكاؤكم ستجعلكم تطبقون هذا على الواقع الحالي في ما يجب أن نفكر ونعمل به، خصوصا مخططينا الكبار، وكيف يكون إعمال ذهننا في هذه المعارك التي تدور حولنا وتمس حدودنا.. والأهم أن ندرك أن من حق الخصم في اللعبة أن يعمل بكل ما يملك ليطيح بنا، ومن حقنا الدفاع والهجوم.. كما يحق للخصمين الصلح والهدنة ومن واقع مصالحهما، وليس حبا طوباويا وأخلاقيا في السلام.