الاقتصادية - السعودية عندما تقرأ في التاريخ وبالذات في أنثروبولوجيا الحروب من بداية البدايات تجد أن الدماء من الضحايا يموتون إما من القتل المباشر أو من توابع وأحداث لها صلة وثيقة بالحرب كالجوع والأمراض والانكشاف لعوامل الطبيعة القاسية بلا حماية ولا سقف. ولكن.. في زاوية ما، في مكان ما، هناك ثلة من الأشخاص يرقصون حول نار الحروب، لأنها تهبهم ثروات وقوة وسلطة خرافية، وتمهد لهم طرق الوصول لأجنداتهم وبسهولة ويسر، بل أحيانا حتى بمواكب تزفهم وكأنهم صناع النصر، ورسل الأمن والسلام. كلما تطالع في حرب تجد أن هناك من يستغل هذه الظروف المريعة ويستفيد، أنا لا أعني فقط من يسمون بأثرياء الحروب الذين فجأة تقفز عليهم فرص الثراء قفزا، إما بالمتاجرة بالسلاح أو الغذاء وفرص أخرى قصصها كثيرة ومتعددة وبعضها كحكايا الجدات. على أن هناك "الوحوش".. أو من أطلق عليهم اسم الوحوش، وهم ناس عظيمو الدهاء، أقوياء بقوة مفرطة، عديمو المشاعر، متصخرو القلوب يصنعون الحرب، وهم يحتسون القهوة، أو يعدلون هندامهم أمام المرآة قبل الخروج للمؤتمرات واللقاءات الإعلامية ليتظاهروا وكأنهم "أطلس" وهو أحد أساطير الإغريق الذي حكم عليه "زوس" رئيس الآلهة بحمل الأرض على كتفيه للأبد، بما يعرف بالعذاب الإغريقي. وتراهم يقفون على المنصات أمام الكاميرات يلمعون أناقة، ويدعون أنهم يحملون على أكتافهم آلام العالم، وأنهم يطلبون ويبحثون عن الحلول لتحقيق الرفاه والعدل والحقوق والديمقراطية للشعوب المغلوبة على أمرها تحت نير الحكم الدكتاتوري السادي. من أقذر وأذكى من مارس تصعيد القتال واختراع الحروب لفرض حلوله المؤجندة هو وزير الخارجية الأمريكي العتيد "هنري كسينجر"، ويعترف أنه، وهو الأستاذ الهارفردي، تلميذ متمسك بتعاليم أستاذه المستشار النمساوي الشهير "مترنيخ". كان كسينجر يعمد لتصعيد القتال وسحق الضحايا وفتح براكين الموت والروع قبل أن يصفف بأناقة أوراقه البيضاء على طاولة من خشب الماهوجني الفخم "للنقاش" مع الخصم المكسر العظام. فعل ذلك في عدة أماكن في العالم أولها وأكثرها درامية في فيتنام، ولم ينس طبعا الشرق الأوسط. لقد قلب هذا الرجل السياسة الدولية متضافرا مع رئيسه الذي وصم بأكبر فضيحة تجسس على الحزب المنافس، ريتشارد نيكسون. وأحيانا يعمد السياسي الصلب الذي لا يأبه للخسائر والدماء الوقتية لحل مشاكل داخل بلده. لقد أذاقت نقابات عمال الفحم ونقابات عمالية أخرى الويل لمارغريت تاتشر رئيسة وزراء بريطانيا الراحلة، التي كانت توصف بأنها الرجل الوحيد في الجزيرة البريطانية، المحافظة الشرسة التي لا يلين لها عزم.. ثم صار أن الأرجنتين حاولت استرجاع جزر لها وقرب حدودها اسمها جزر الفوكلاند من قبضة الاستعمار البريطاني، وجاءت الفرصة على صحن من ذهب لتاتشر، وأعلنت أن الأرجنتين أهانت الكرامة البريطانية ورمت القفاز في وجهها إذا فإنها أعلنت الحرب على الأرجنتين. وفعلا أرسلت أساطيل البحرية الملكية مسلحة حتى الأضراس آلاف الأميال للجزر القصية الباردة المجدبة، واستعادت الجزر. وقفلت الأساطيل راجعة بفورة الأبطال المظفرين. لماذا أرسلت تاتشر تلك الأساطيل وأشعلت حربا بعيدة، الأجل خاطر جزر ضائعة في المحيط؟ لا، طبعا. تبين فيما بعد أنها قامت بذلك رغم معارضات محلية وعالمية لتأخذ صكا فوريا من الشعب البريطاني المزهو بها لسحق النقابات.. وفعلت. كل حرب وراءها دهاة بلا مشاعر إلا مشاعر الشره والشر والطمع والوصول للأهداف غير المعلنة. وسيكشف لنا التاريخ، إن لم نكتشف نحن الآن، وبضريبة باهظة دفعت من الروع والدم، والحياة فوق الزلازل ووسط تيارات الحمم، مثل المعارك مع داعش والحروب في سورية والعراق واليمن وربما توابع الثورات العربية والإرهاب بأنواعه، أن عقولا بمظهر قشيب تطل علينا بريش الحمائم مطالبة بالسلام وتسهم مباشرة أمامنا بالحلول، وهي حلول حربية واقتصادية ونفسية بينما تكون في البدء هي التي خططت لزعزعة ألواح الأرض من تحتنا، وفتحت أفواه البراكين التي تحرق المنطقة. هذه العقول هي التي كتبت السيناريو وأخرجته. ثم يبقى الممثلون الذين يديرهم المخرج، وهم من وقعوا وسط الظروف فيستغلونها، وهم تحت استغلال أياد أكبر. والتاريخ سيكشف يوما أيضا من هم الممثلون.