الوطن - السعودية "مدى تأثير المفكرين العرب لم يكن واحدا، بمعنى أن مفكري اتجاه واحد كانوا أكثر تأثيراً من مفكري الاتجاهات الأخرى، وهذا ما يجعل الحكم على ما قدمه المفكرون الآخرون ظالماً، كونه لم يدخل في وعي الجماهير العربية" بعد حوالي خمس سنوات من بداية الثورات العربية يكون من المهم مراجعة تلك الأفكار ومساءلتها في جذورها التي أنشأتها، فكثير منها فشل فشلاً ذريعاً؛ بل قاد بعضها إلى سياقات مدمرة للواقع العربي. واحدة منها نجحت دون غيرها، وربما كان ثقل التركة القديمة هو الذي أفضى إلى كل ذلك، فكان لا بد من العودة إليها ومساءلتها. منذ سنوات بعيدة، ولأكثر من حوالي سبعين عاماً، خاضت المنطقة العربية في إشكالات كثيرة وعديدة، وبرأيي أن كل هذه الإشكالات كان لها بعدها الفكري قبل البعد السياسي. سؤال النهضة العربية سؤال قديم ومتجدد لم يقف عند حد معين من الأسئلة؛ بل إنه شمل المناطق الفكرية والسياسية والاجتماعية والدينية، واختلفت تلك الأسئلة كما اختلفت الإجابات، وانساق الجميع إلى تشكيل أيديولوجيات معرفية بعضها تحول إلى مشروع نهضوي أكبر، وبعضها الآخر اختار الانزياح من المشهد العربي بصمت، وربما هزيمة سياسية كما حصل للأيديولوجيا الناصرية بعد النكسة. كان أساس التفكير العربي يذهب في سياق أسباب التقدم الغربي وأسباب التخلف العربي، والصدمة التي تشكلت في الوعي العربي كانت بسبب أن التقدم الغربي جاء بصيغة عسكرية مع القوى الاستعمارية منذ أول لقاء بين الشرق والغرب. هذه الصيغة أفرزت عدداً من الاتجاهات للإجابة عن سؤال التقدم الغربي جعلت الكثير من المفكرين العرب يعيدون الرؤية في الذات العربية والآخر الغربي، ويمكن اختصار تلك الاتجاهات في ثلاثة هي: الاتجاه الإسلامي، والاتجاه الليبرالي، والاتجاه العروبي، وكل من هذه الاتجاهات كان لها مفكروها المعتبرون الذين اختلفت رؤاهم حتى من داخل الاتجاه الواحد حسب الفكرة التي ينطلق منها أولئك المفكرون، وربما خلق هذا نوعاً من التيارات المتصارعة داخل الاتجاهات نفسها؛ فضلاً عن الصراع القديم المتجدد بين الاتجاهات الثلاثة. كان الاتجاه الإسلامي يتبنى وجهة النظر التي تؤمن بأن إشكالية العالم العربي هي بسبب بعدها عن الدين، والعودة إلى التفوق العربي يكون نتيجة إلى التمسك بالهوية الإسلامية؛ لكن هذا الهوية تشكلت بأشكال مختلفة من داخل الاتجاه الإسلامي إلى أكثر من تيار، ولعل التيار السلفي أو التقليدي هو أكثر التيارات شهرة في هذا الجانب إلى جانب التيار الإسلامي التجديدي الذي يؤمن ببعض التمسك مع الاستفادة من الحداثة، وتفرق مفكرو هذا الاتجاه بين هذين التيارين وصاغوا عدداً من الأفكار التي تقترب حيناً من الأول أو من الثاني حسب القضية التي يدور حولها النقاش. في حين كان الاتجاه الليبرالي يجنح إلى الرؤية التي تتوافق كثيراً مع الرؤى الفكرية الغربية كونها مصدر القوة الثقافية والحضارية، والاستفادة من كل المنجزات الغربية العلمية والإنسانية كونها إنجازات للبشرية كلها، ولعل أشهر مفكري هذا الاتجاه هو طه حسين، لكن يبقى اتجاهاً ليس له الكثير من القابلية لدى المجتمع العربي لكون العقل العربي يدور في الإطار النضالي كما ذكرنا. أما الاتجاه العروبي فهو يحاول أن يؤسس ذاته الفكرية على أسس الثقافة العربية ويتكئ عليها، لكنه موروث ثقافي من أجل صياغة مستقبلية تقدمية للعالم العربي مما ينتج نقداً للتراث لمحاولة غربلته، وتختلف أدوات التفكير لدى مفكري هذا الاتجاه من إيمان بالثقافة العربية أو نقدها لتصحيحها، ويعتبر محمد عابد الجابري أشهر ممثلي هذا الاتجاه إلى جانب غيره من المفكرين كحسن حنفي مثلاً. دوران المفكرين العرب في إطار هذه الاتجاهات الثلاثة جعل الصراع الفكري بينها أكثر من التوافق، مما جعل التمترس خلف المنظومات الفكرية عائدا إلى الصراع القديم بين هذه الاتجاهات إلى جانب أن الرؤية النضالية كانت تؤثر كثيراً في تبلور العديد من تلك الأفكار التي أنتجوها، ولذلك فإن مشكلة التأثير خاضعة إلى مدى قوة الهيمنة في الصراع على القوة الجماهيرية. الإشكالية أن مدى تأثير المفكرين لم يكن واحداً، بمعنى أن مفكري اتجاه واحد كانوا أكثر تأثيراً من مفكري الاتجاهات الأخرى، وهذا ما يجعل الحكم على ما قدمه المفكرون الآخرون ظالماً لكونه لم يدخل في وعي الجماهير العربية بحيث تصبح الأفكار من قبل مفكري الاتجاهات جميعها برنامجاً عملياً من أجل الحياة بقدر ما هو برنامج من أجل الاتجاه نفسه، ثم إن هيمنة اتجاه على الاتجاهات الأخرى يجعل من تأثير الأخريات أقل بكثير كون الرؤية الجماهيرية تجنح إلى تبني اتجاه دون غيره، وهو ما يرضي عواطفها الجياشة أكثر من إرضائه العقل النقدي الذي تتبناه الرؤى الفكرية لدى المفكرين الآخرين من الاتجاهات الأخرى. ولذلك فإن محاكمة فشل المشاريع الفكرية من قبل المفكرين العرب تبقى في غير مكانها حتى نصل إلى برنامج حقيقي يمكننا من خلاله معرفة مدى تأثيره على الواقع العربي سلباً أو إيجاباً، وهنا تبقى الإجابة عن سؤال ماذا قدم المفكرون العرب مستقبلية - من وجهة نظري - قبل أن تكون إجابة حاضرة عن سؤال حاضر في مدى التأثير للحاضر العربي. بعض هذه الخطابات انتهجت الرؤية المتطرفة في إعادة صيغة الواقع، إلى الدرجة التي حملت من أجل فرض أفكارها السلاح في وجه منتقديها أو في وجه السياسات التي لا تشترك معها في الرؤية. كانت الأفكار التقدمية هي سيدة الموقف العربي، وعملت على فرض رؤاها الفكرية والاجتماعية والسياسية، وكانت الرؤية "النضالية" هي الفكرة الأكثر سيطرة على موقفها العربي كونها جاءت بعد التحرر من الاستعمار مباشرة، أو لكونها جاءت نضالية ضد قوى التخلف كما تصورها سابقاً، فكانت الثورات العربية العسكرية على طول الخريطة العربية من مشرقها إلى مغربها. خلفتها على هذا النهج "النضالي" الحركات الإسلاموية، بل يمكن القول: إنها ورثتها منها إلى حد ما أو استفادت منها في صياغتها للاحتشاد الثوري، إذا صح الوصف، مع اختلاف في الرؤية والتكوين الفكري بين الرؤية القومية والرؤية الإسلاموية، ولا تزال الرؤى الإسلاموية مؤثرة كثيراً في إعادة هيكلة الواقع العربي، وعلى مجمل التفكير العربي، مما يجعل الاحتشاد الإسلاموي احتشاداً خطيراً على الدول التي تسعى إلى ردم الهوة بينها وبين هذه الحركات أو أن تصادمها مصادمة عنيفة. تبقى هناك إشكالية أخرى لها تأثير كبير في مدى تأثير أفكار المفكرين العرب في الوعي الجماهيري، وهي مدى قابلية السياسي في إعادة صياغة تلك الأفكار لصالحه، وليس للصالح المعيشي العربي، فالأفكار التي تبنتها المؤسسات الرسمية للدول العربية تحولت مع مرور الوقت إلى خدمة السياسي، وليس إلى خدمة الشعوب ورفع وعيها النهضوي، ولذلك فإن الكثير من العقول الفكرية العربية كانت إما عقولاً تحت إطار الدولة العربية ورعايتها، أو أنها عقول فكرية مهاجرة، وفي الحالتين يتقلص مدى التأثير على الوعي العربي. من هنا يبقى ما قدمه المفكرون العرب محدوداً جداً في مقابل ما قدمته القوى التقليدية، لأنها الأقرب إلى وعي الشعوب والأكثر قدماً واتصالاً بالعقل الجماهيري.