العربي الجديد اللندنية كانت حميدة الكردية لا تعرف كللاً. تعمل ساعات طوال في تنظيف المنازل، ثم ترجع إلى منزلها، فتقوم بالمهمات نفسها، يُضاف إليها غسل الأولاد وإطعامهم، قبل أن تخرج إلى محل زوجها، بائع الخضار، لتعينه في البيع، وفي توضيب الخضار. كل هذا وهي منتصبة كالرمح، متفتّحة وباسمة كوردة. وكانت حميدة طويلة القامة، صلبة العود، ترتدي ثياباً مزركشاً ملوّناً بألف لون، تمتلئ ذراعاها وأذناها وأسنانها كلها تقريبا بالذهب، فيما تشع عيناها بصحة وعافية وإقبال على الحياة، كانت تُعرف بها بقدر ما تُحسد عليها. وذات يوم، خرجت حميدة التي كانت تبدو سعيدة جداً في زواجها، وامرأة ظاهرة غير مختبئة، ومعيلة لعائلتها بقدر ما كان زوجها هو المعيل، إن لم يكن أكثر، منبوشة الشعر، وقد امتلأ وجهها، وما بان من جسدها بالكدمات، تصرخ وتشتم بفم فقد ابتسامته، وبلغة لم نكن نفقه شيئاً من ألفاظها. قلنا، بل قال أهل الحي، إن هذا الزواج السعيد لم يكن سعيداً بمثل ما اعتقدوا، وإنهم لو عرفوا أن يتكلّموا الكردية، لأدركوا باكراً ما يعتري هذه العلاقة من شائبة. لكن، ما هي إلا دقائق، حتى خرج وراءها زوجها أحمد، في منظر أكثر هولاً من منظرها، ممزّق الثياب، متورّم العين، فاقداً سنّين ذهبيتين أماميتين، وهو يبكي ويرجوها راكعاً، أن تعود. توقفت حميدة لاهثة مستاءة، ثم انحنت ورفعته، وقالت له جملتين، لا أكثر، وهي تصوّب بحزم إصبعها نحو أنفه، فابتسم أحمد بفمه الدامي موافقاً، وقبّل رأسها، وأمسكها من ذراعها، وغادرا الشارع إلى بيتهما. هذي كانت حميدة الكردية، زوجة بائع الخضار، أسفل البناية التي تجاور بنايتنا، ما قبل اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية، وكان هذا أول عهدي بالأكراد. ثم التقيت بسليم بركات، الشاعر والروائي السوري الكردي، أولاً عبر كتاباته، ومن ثم لتصوير فيلم عنه بثته قناة الجزيرة ضمن برنامج "موعد في المهجر" الذي حقّقتُ وأخرجتُ خمس عشرة حلقة الأولى منه، فكنتُ أرى، عبر جُمل سليم، الكرديَّ كالمهر الأصيل، حرّاً حتى العظم، سارحاً مع الريح في السهول والفيافي، مقتاتاً بالتفلّت وملتحفاً بالعراء. وقد أحيا هذه الصورة في مخيلتي، أخيراً، الصديق صبحي حديدي، حين استرجع قصيدة بركات "دينوكا بريفا، تعالي إلى طعنة هادئة"، في مقالة نشرها في صحيفة القدس العربي، وهي من القصائد النادرة التي ما زلت أذكر أثرها الهائل والصادم، على الرغم من قراءتي لها في سنّ مبكرة جدّاً، في مجلة مواقف، إذ جعلتني أكتشف أحد أمهر وأرقى نحّاتي اللغة العربية وخيميائييها على الإطلاق. لقائي الثالث كان مع مجموعة من الأكراد من أربيل، التقيتهم في عمّان في إطار برنامج تدريبي تابع للأمم المتحدة. هؤلاء عدّلوا في رأسي صورة الكردي الرومنطيقية، الجامحة، إذ وجدتهم يشبهوننا بشكل محبط، بكامل تقليديتنا ولا استثنائيتنا وعاديّتنا، بل حتى ربما بكل رجعيتنا. هذا ما رأيته يومها، وهو ما أنزل الكرديّ في مخيّلتي من مصاف الرمز المجمَّل إلى مصاف الواقع، واقع المجتمعات العربية، بكل تنويعاتها وأقلياتها. اليوم، وأنا أقرأ عن "كوباني" التي يصرّون لسبب غير مفهوم على تسميتها "عين العرب"، وعن المقاتلات الكرديات اللواتي يشكّلن ثلث المقاتلين فيها، وأنا أرى صورهنّ بعد أن استشهدن في القتال ضد داعش، أو وضعن في رأسهن رصاصةً، قبل أن يستولي عليهن العدوّ، أدرك أن فيهن شيئاً من وجه حميدة الكردية، وشيئاً من صور سليم بركات ولغته الشعرية، وشيئاً من سحر ما زلت، للأسف، أجهل عنه الكثير الكثير.